أسلافهم وعلى شبهاتهم التي يحسبونها أدلّة مفحمة ، كقولهم : «كيف نأكل ما قتلناه وقتله الكلب والصّقر ، ولا نأكل ما قتله الله» كما تقدم آنفا ، كما أشعر به فعل : (يَخْرُصُونَ) من معنى التّقدير والتّأمّل.
والخرص : الظنّ الناشئ عن وجدان في النّفس مستند إلى تقريب ، ولا يستند إلى دليل يشترك العقلاء فيه ، وهو يرادف : الحزر ، والتّخمين ، ومنه خرص النّخل والكرم ، أي تقدير ما فيه من الثّمرة بحسب ما يجده النّاظر فيما تعوّده. وإطلاق الخرص على ظنونهم الباطلة في غاية الرشاقة لأنّها ظنون لا دليل عليها غير ما حسن لظانّيها. ومن المفسّرين وأهل اللّغة من فسّر الخرص بالكذب ، وهو تفسير قاصر ، نظر أصحابه إلى حاصل ما يفيده السّياق في نحو هذه الآية ، ونحو قوله : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) [الذاريات : ١٠] ؛ وليس السّياق لوصف أكثر من في الأرض بأنّهم كاذبون ، بل لوصمهم بأنّهم يأخذون الاعتقاد من الدّلائل الوهميّة ، فالخرص ما كان غير علم ، قال تعالى : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الزخرف : ٢٠] ، ولو أريد وصفهم بالكذب لكان لفظ (يكذبون) أصرح من لفظ (يَخْرُصُونَ).
واعلم أنّ السّياق اقتضى ذمّ الاستدلال بالخرص ، لأنّه حزر وتخمين لا ينضبط ، ويعارضه ما ورد عن عتاب بن أسيد قال : «أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يخرص العنب كما يخرص التّمر». فأخذ به مالك ، والشّافعي ، ومحمله على الرخصة تيسيرا على أرباب النّخيل والكروم لينتفعوا بأكل ثمارهم رطبة ، فتؤخذ الزّكاة منهم على ما يقدره الخرص ، وكذلك في قسمة الثّمار بين الشّركاء ، وكذلك في العريّة يشتريها المعري ممن أعراه ، وخالف أبو حنيفة في ذلك وجعل حديث عتاب منسوخا.
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧))
تعليل لقوله : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ) [الأنعام : ١١٦] لأنّ مضمونه التّحذير من نزغاتهم وتوقّع التّضليل منهم وهو يقتضي أنّ المسلمين يريدون الاهتداء ، فليجتنبوا الضالّين ، وليهتدوا بالله الّذي يهديهم. وكذلك شأن (إنّ) إذا جاءت في خبر لا يحتاج لردّ الشكّ أو الإنكار : أن تفيد تأكيد الخبر ووصله بالّذي قبله ، بحيث تغني غناء فاء التّفريع ، وتفيد التّعليل ، ولمّا اشتملت الآيات المتقدّمة على بيان ضلال الضالّين ، وهدى المهتدين ، كان قوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) تذييلا