الله أعلم المهتدين ، أي أقوى المهتدين علما ، لأنّ الاهتداء من العلم. هذا ما لاح لي في نكتة تجريد قوله : (هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) من حرف الجرّ الّذي يتعدّى به (أَعْلَمُ).
(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨))
هذا تخلّص من محاجّة المشركين وبيان ضلالهم ، المذيّل بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [الأنعام : ١١٧]. انتقل الكلام من ذلك إلى تبيين شرائع هدى للمهتدين ، وإبطال شرائع شرعها المضلّون ، تبيينا يزيل التّشابه والاختلاط. ولذلك خللت الأحكام المشروعة للمسلمين ، بأضدادها الّتي كان شرعها المشركون وسلفهم.
وما تشعر به الفاء من التفريع يقضي باتّصال هذه الجملة بالّتي قبلها ، ووجه ذلك : أنّ قوله تعالى : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [الأنعام : ١١٦] تضمّن إبطال ما ألقاه المشركون من الشّبهة على المسلمين : في تحريم الميتة ، إذ قالوا للنّبيصلىاللهعليهوسلم «تزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك وما قتل الكلب والصّقر حلال أكله ، وأنّ ما قتل الله حرام» وأنّ ذلك ممّا شمله قوله تعالى : (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الأنعام : ١١٦] ، فلمّا نهى الله عن اتّباعهم ، وسمّى شرائعهم خرصا ، فرّع عليه هنا الأمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه ، أي عند قتله ، أي ما نحر أو ذبح وذكر اسم الله عليه ، والنّهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه ، ومنه الميتة ، فإنّ الميتة لا يذكر اسم الله عليها ، ولذلك عقبت هذه الآية بآية : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام : ١٢١]. فتبيّن أنّ الفاء للتّفريع على معلوم من المراد من الآية السّابقة.
والأمر في قوله : (فَكُلُوا) للإباحة. ولمّا لم يكن يخطر ببال أحد أنّ ما ذكر اسم الله عليه يحرم أكله ، لأنّ هذا لم يكن معروفا عند المسلمين ، ولا عند المشركين ، علم أنّ المقصود من الإباحة ليس رفع الحرج ، ولكن بيان ما هو المباح ، وتمييزه عن ضدّه من الميتة وما ذبح على النّصب. والخطاب للمسلمين.
وقوله : (مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) دلّ على أنّ الموصول صادق على الذّبيحة ، لأنّ العرب كانوا يذكرون عند الذّبح أو النّحر اسم المقصود بتلك الذكاة ، يجهرون بذكر اسمه ، ولذلك قيل فيه : أهلّ به لغير الله ، أي أعلن. والمعنى كلوا المذكّى ولا تأكلوا الميتة. فما