١٢١].
(وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣))
عطف على جملة : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ١٢٢] فلها حكم الاستئناف البياني ، لبيان سبب آخر من أسباب استمرار المشركين على ضلالهم ، وذلك هو مكر أكابر قريتهم بالرّسول صلىاللهعليهوسلم والمسلمين وصرفهم الحيل لصدّ الدهماء عن متابعة دعوة رسول الله صلىاللهعليهوسلم. والمشار إليه بقوله : و (كَذلِكَ) أولياء الشياطين بتأويل (كَذلِكَ) المذكور.
والمعنى : ومثل هذا الجعل الذي جعلناه لمشركي مكّة جعلنا في كلّ قرية مضت أكابر يصدّون عن الخير ، فشبّه أكابر المجرمين من أهل مكّة في الشّرك بأكابر المجرمين في أهل القرى في الأمم الأخرى ، أي أنّ أمر هؤلاء ليس ببدع ولا خاصّ بأعداء هذا الدّين ، فإنّه سنّة المجرمين مع الرسل الأوّلين.
فالجعل : بمعنى الخلق ووضع السّنن الكونيّة ، وهي سنن خلق أسباب الخير وأسباب الشرّ في كلّ مجتمع ، وبخاصّة القرى.
وفي هذا تنبيه على أنّ أهل البداوة أقرب إلى قبول الخير من أهل القرى ، لأنّهم لبساطة طباعهم من الفطرة السّليمة ، فإذا سمعوا الخير تقبّلوه ، بخلاف أهل القرى ، فإنّهم لتشبّثهم بعوائدهم وما ألفوه ، ينفرون من كلّ ما يغيّره عليهم ، ولهذا قال الله تعالى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) [التوبة : ١٠١] فجعل النّفاق في الأعراب نفاقا مجرّدا ، والنّفاق في أهل المدينة نفاقا ماردا.
وقد يكون الجعل بمعنى التّصيير ، وهو تصيير خلق على صفة مخصوصة أو تصيير مخلوق إلى صفة بعد أن كان في صفة أخرى ، ثمّ إنّ تصارع الخير والشرّ يكون بمقدار غلبة أهل أحدهما على أهل الآخر ، فإذا غلب أهل الخير انقبض دعاة الشرّ والفساد ، وإذا انعكس الأمر انبسط دعاة الشرّ وكثروا. ومن أجل ذلك لم يزل الحكماء الأقدمون يبذلون الجهد في إيجاد المدينة الفاضلة الّتي وصفها (أفلاطون) في «كتابه» ، والّتي كادت أن تتحقّق صفاتها في مدينة (أثينة) في زمن جمهوريتها ، ولكنّها ما تحقّقت بحقّ إلّا في مدينة الرّسول صلىاللهعليهوسلم في زمانه وزمان الخلفاء الرّاشدين فيها.