منها هذه الحكمة ، فيظهر بذلك شرف الحقّ والصّلاح ويسطع نوره ، ويظهر اندحاض الباطل بين يديه بعد الصّراع الطّويل ؛ ويجوز أن تكون اللام المسماة لام العاقبة ، وهي في التحقيق استعارة اللام لمعنى فاء التفريع كالتي في قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨].
ودخلت مكّة في عموم : (كُلِّ قَرْيَةٍ) وهي المقصود الأول ، لأنّها القرية الحاضرة الّتي مكر فيها ، فالمقصود الخصوص. والمعنى : وكذلك جعلنا في مكّة أكابر مجرميها ليمكروا فيها كما جعلنا في كلّ قرية مثلهم ، وإنّما عمّم الخبر لقصد تذكير المشركين في مكّة بما حلّ بالقرى من قبلها ، مثل قرية : الحجر ، وسبا ، والرّس ، كقوله : (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) [الأعراف : ١٠١] ، ولقصد تسلية الرّسول صلىاللهعليهوسلم بأنّه ليس ببدع من الرّسل في تكذيب قومه إيّاه ومكرهم به ووعده بالنّصر.
وقوله : (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) أكابر جمع أكبر. وأكبر اسم لعظيم القوم وسيّدهم ، يقال: ورثوا المجد أكبر أكبر ، فليست صيغة أفعل فيه مفيدة الزّيادة في الكبر لا في السنّ ولا في الجسم ، فصار بمنزلة الاسم غير المشتقّ ، ولذلك جمع إذا أخبر به عن جمع أو وصف به الجمع ولو كان معتبرا بمنزلة الاسم المشتقّ لكان حقّه أن يلزم الإفراد والتّذكير. وجمع على أكابر ، يقال : ملوك أكابر ، فوزن أكابر في الجمع فعالل مثل أفاضل جمع أفضل ، وأيامن وأشائم جمع أيمن وأشأم للطّير السوانح في عرف أهل الزجر والعيافة.
واعلم أنّ اصطلاح النّحاة في موازين الجموع في باب التّكسير وفي باب ما لا ينصرف أن ينظروا إلى صورة الكلمة من غير نظر إلى الحروف الأصليّة والزائدة بخلاف اصطلاح علماء الصّرف في باب المجرّد والمزيد. فهمزة أكبر تعتبر في الجمع كالأصلي وهي مزيدة.
وفي قوله : (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) إيجاز لأنّ المعنى جعلنا في كلّ قرية مجرمين وجعلنا لهم أكابر فلمّا كان وجود أكابر يقتضي وجود من دونهم استغنى بذكر أكابر المجرمين.
والمكر : إيقاع الضرّ بالغير خفية وتحيّلا ، وهو من الخداع ومن المذام ، ولا يغتفر إلّا في الحرب ، ويغتفر في السّياسة إذا لم يمكن اتّقاء الضرّ إلّا به ، وأمّا إسناده إلى الله في قوله تعالى : (وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [آل عمران : ٥٤] فهو من المشاكلة لأنّ قبله (وَمَكَرُوا) [آل عمران : ٥٤] ، أي مكروا بأهل الله ورسله. والمراد بالمكر هنا تحيّل زعماء