مشركو مكّة ، فهو للتّسلية والتّطمين لئلا يستبطئ وعد الله بالنّصر ، وهو تعريض بالوعيد للمشركين من باب : واسمعي يا جارة. وقرأه ابن عامر ـ بتاء الخطاب ـ ، فالخطاب للرّسولصلىاللهعليهوسلم ومن معه من المسلمين ، فهو وعد بالجزاء على صالح أعمالهم ، ترشيحا للتّعبير بالدّرجات حسبما قدّمناه ، ليكون سلا لهم من وعيد أهل القرى أصحاب الظّلم ، وكلتا القراءتين مراد الله تعالى فيما أحسب.
(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣))
(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ).
عطفت جملة : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُ) على جملة : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ١٣٢] إخبارا عن علمه ورحمته على الخبر عن عمله ، وفي كلتا الجملتين وعيد ووعد ، وفي الجملة الثّانية كناية عن غناه تعالى عن إيمان المشركين وموالاتهم كما في قوله : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) [الزمر : ٧] ، وكناية عن رحمته إذ أمهل المشركين ولم يعجّل لهم العذاب ، كما قال : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) في سورة الكهف [٥٨].
وقوله : (وَرَبُّكَ) إظهار ، في مقام الإضمار ، ومقتضى الظاهر أن يقال : وهو الغنيّ ذو الرّحمة ، فخولف مقتضى الظاهر لما في اسم الربّ من دلالة على العناية بصلاح المربوب ، ولتكون الجملة مستقلّة بنفسها فتسير مسرى الأمثال والحكم ، وللتنويه بشأن النبيصلىاللهعليهوسلم.
والغنيّ : هو الّذي لا يحتاج إلى غيره ، والغنيّ الحقيقي هو الله تعالى لأنّه لا يحتاج إلى غيره بحال ، وقد قال علماء الكلام : إنّ صفة الغنى الثّابتة لله تعالى يشمل معناها وجوب الوجود ، لأنّ افتقار الممكن إلى الموجد المختار ، الّذي يرجح طرف وجوده على طرف عدمه ، هو أشدّ الافتقار ، وأحسب أنّ معنى الغنى لا يثبت في اللّغة للشّيء إلّا باعتبار أنّه موجود فلا يشمل معنى الغنى صفة الوجود في متعارف اللّغة. إلّا أن يكون ذلك اصطلاحا للمتكلّمين خاصّا بمعنى الغنى المطلق. وممّا يدلّ على ما قلته أنّ من أسمائه تعالى المغني ، ولم يعتبر في معناه أنّه موجد الموجودات. وتقدّم الكلام على معنى الغنيّ عند قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) في سورة النّساء [١٣٥].