أنّ نفي حلّهنّ لهم حكم ثابت لا يختلف ، والثّاني يفيد أنّ نفي حلّهم لهنّ حكم متجدّد لا ينسخ ، فهما اعتباران ، وقد أشرت إلى بعض هذا عند تفسير قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) في سورة البقرة [٢٧٦].
(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥))
استئناف ابتدائي بعد قوله : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ) [الأنعام : ١٣٤] فإنّ المقصود الأوّل منه هو وعيد المشركين ، كما مرّ ، فأعقبه بما تمحّض لوعيدهم : وهو الأمر المستعمل في الإنذار والتّهديد ، ليملي لهم في ضلالهم إملاء يشعر ، في متعارف بالتّخاطب ، بأنّ المأمور به ممّا يزيد المأمور استحقاقا للعقوبة ، واقترابا منها. أمر الله رسولهصلىاللهعليهوسلم بأن يناديهم ويهدّدهم. وأمر أن يبتدئ خطابهم بالنّداء للاهتمام بما سيقال لهم ، لأنّ النّداء يسترعي إسماع المنادين ، وكان المنادي عنوان القوم لما يشعر به من أنّه قد رقّ لحالهم حين توعدهم بقوله : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [الأنعام : ١٣٤] لأنّ الشأن أنّه يحبّ لقومه ما يحبّ لنفسه.
والنّداء : للقوم المعاندين بقرينة المقام ، الدالّ على أنّ الأمر للتّهديد ، وأنّ عملهم مخالف لعمله ، لقوله : (اعْمَلُوا) ـ مع قوله ـ (إِنِّي عامِلٌ).
فالأمر في قوله : (اعْمَلُوا) للتسوية والتخلية لإظهار اليأس من امتثالهم للنّصح بحيث يغيّر ناصحهم نصحهم إلى الإطلاق لهم فيما يحبّون أن يفعلوا ، كقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] وهذا الاستعمال استعارة إذ يشبّه المغضوب عليه المأيوس من ارعوائه بالمأمور بأن يفعل ما كان ينهى عنه ، فكأنّ ذلك المنهي صار واجبا ، وهذا تهكّم.
والمكانة : المكان ، جاء على التّأنيث مثل ما جاء المقامة للمقام ، والدارة اسما للدار ، والماءة للماء الّذي ينزل حوله ، يقال : أهل الماء وأهل الماءة. والمكانة هنا مستعارة للحالة الّتي تلبّس بها المرء ، تشبّه الحالة في إحاطتها وتلبّس صاحبها بها بالمكان الّذي يحوي الشّيء ، كما تقدّم اطلاق الدّار آنفا في قوله تعالى : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ) [الأنعام : ١٢٧] ، أو تكون المكانة كناية عن الحالة لأنّ أحوال المرء تظهر في مكانه ومقرّه ، فلذلك يقال : «يا فلان على مكانتك» أي أثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه.