مع إظهار الآيات لهم ، أي لا يؤمنون ، ويزيدهم ذلك جهلا على جهلهم ، فيكون المراد بالجهل ضدّ الحلم ، لأنّهم مستهزءون ، وإسناد الجهل إلى أكثرهم لإخراج قليل منهم وهم أهل الرأي والحلم فإنّهم يرجى إيمانهم ، لو ظهرت لهم الآيات ، وبهذا التّفسير يظهر موقع الاستدراك.
فضمير (يَجْهَلُونَ) عائد إلى المشركين لا محالة كبقية الضّمائر التي قبله.
(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢))
اعتراض قصد منه تسلية الرّسول صلىاللهعليهوسلم والواو واو الاعتراض ، لأنّ الجملة بمنزلة الفذلكة ، وتكون للرّسول صلىاللهعليهوسلم تسلية بعد ذكر ما يحزنه من أحوال كفار قومه ، وتصلّبهم في نبذ دعوته ، فأنبأه الله : بأنّ هؤلاء أعداؤه ، وأن عداوة أمثالهم سنة من سنن الله تعالى في ابتلاء أنبيائه كلّهم ، فما منهم أحد إلّا كان له أعداء ، فلم تكن عداوة هؤلاء للنبي عليه الصلاة والسلام بدعا من شأن الرّسل. فمعنى الكلام : ألست نبيئا وقد جعلنا لكلّ نبيء عدوّا ـ إلى آخره.
والإشارة بقوله : (وَكَذلِكَ) إلى الجعل المأخوذ من فعل (جَعَلْنا) كما تقدّم في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣]. فالكاف في محل نصب على أنّه مفعول مطلق لفعل (جَعَلْنا).
وقوله : (عَدُوًّا) مفعول (جَعَلْنا) الأوّل ، وقوله : (لِكُلِّ نَبِيٍ) المجرور مفعول ثان ل (جَعَلْنا) وتقديمه على المفعول الأول للاهتمام به ، لأنّه الغرض المقصود من السّياق ، إذ المقصود الإعلام بأنّ هذه سنّة الله في أنبيائه كلّهم ، فيحصل بذلك التّأسّي والقدوة والتّسلية ؛ ولأن في تقديمه تنبيها ـ من أول السمع ـ على أنه خبر ، وأنه ليس متعلّقا بقوله : (عَدُوًّا) كيلا يخال السّامع أنّ قوله : (شَياطِينَ الْإِنْسِ) مفعول لأنّه يحوّل الكلام إلى قصد الإخبار عن أحوال الشّياطين ، أو عن تعيين العدوّ للأنبياء من هو ، وذلك ينافي بلاغة الكلام.
و (شَياطِينَ) بدل من (عَدُوًّا) وإنّما صيغ التّركيب هكذا : لأنّ المقصود الأوّل الإخبار بأنّ المشركين أعداء للرّسول صلىاللهعليهوسلم ، فمن أعرب (شَياطِينَ) مفعولا لجعل و (لِكُلِّ نَبِيٍ) ظرفا لغوا متعلّقا ب (عَدُوًّا) فقد أفسد المعنى.