و (ما) هي فاعل (ساءَ) وهي موصولة وصلتها (يَحْكُمُونَ) ، وحذف العائد المنصوب ، وحذف المخصوص بالذّم لدلالة : (جَعَلُوا) عليه ، أي : ساء ما يحكمون جعلهم ، وسمّاه حكما تهكّما ، لأنّهم نصبوا أنفسهم لتعيين الحقوق ، ففصلوا بحكمهم حقّ الله من حقّ الأصنام ، ثمّ أباحوا أن تأخذ الأصنام حقّ الله ولا يأخذ الله حقّ الأصنام ، فكان حكما باطلا كقوله : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [المائدة : ٥٠].
(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧))
عطف على جملة : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) [الأنعام : ١٣٦] والتقدير : جعلوا وزيّن لهم شركاؤهم قتل أولادهم فقتلوا أولادهم ، فهذه حكاية نوع من أنواع تشريعاتهم الباطلة ، وهي راجعة إلى تصرّفهم في ذرّيّاتهم بعد أن ذكر تصرّفاتهم في نتائج أموالهم. ولقد أعظم الله هذا التّزيين العجيب في الفساد الّذي حسّن أقبح الأشياء وهو قتلهم أحبّ النّاس إليهم وهم أبناؤهم ، فشبه بنفس التزيين للدّلالة على أنّه لو شاء أحد أن يمثّله بشيء في الفظاعة والشّناعة لم يسعه إلّا أن يشبهه بنفسه لأنّه لا يبلغ شيء مبلغ أن يكون أظهر منه في بابه ، فيلجأ إلى تشبيهه بنفسه ، على حدّ قولهم «والسّفاهة كاسمها». والتّقدير : وزيّن شركاء المشركين لكثير فيهم تزيينا مثل ذلك التّزيين الّذي زيّنوه لهم ، وهو هو نفسه ، وقد تقدّم تفصيل ذلك عند قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣].
ومعنى التّزيين التّحسين ، وتقدّم عند قوله تعالى : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) في هذه السورة [١٠٨]. ومعنى تزيين ذلك هنا أنّهم خيّلوا لهم فوائد وقربا في هذا القتل ، بأن يلقوا إليهم مضرّة الاستجداء والعار في النّساء ، وأنّ النّساء لا يرجى منهنّ نفع للقبيلة ، وأنّهنّ يجبّنّ الآباء عند لقاء العدوّ ، ويؤثرن أزواجهن على آبائهن ، فقتلهنّ أصلح وأنفع من استبقائهن ، ونحو هذا من الشّبه والتّمويهات ، فيأتونهم من المعاني الّتي تروج عندهم ، فإنّ العرب كانوا مفرطين في الغيرة ، والجموح من الغلب والعار كما قال النّابغة :
حذارا على أن لا تنال مقادتي |
|
ولا نسوتي حتّى يمتن حرائرا |
وإنّما قال : (لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) لأنّ قتل الأولاد لم يكن يأتيه جميع القبائل ،