قولهم حين يشرعون في بيان أحكام دينهم ، كما يقول القاسم : هذا لفلان ، وهذا للآخر. وأجمل ذلك هنا إذ لا غرض في بيانه لأنّ الغرض التّعجيب من فساد شرعهم ، كما تقدّم في قوله تعالى : (فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) [الأنعام : ١٣٦] وقد صنّفوا ذلك ثلاثة أصناف :
صنف محجّر على مالكه انتفاعه به ، وإنّما ينتفع به من يعيّنه المالك. والّذي يؤخذ ممّا روي عن جابر بن زيد وغيره : أنّهم كانوا يعيّنون من أنعامهم وزرعهم وثمارهم شيئا يحجرون على أنفسهم الانتفاع به ، ويعيّنونه لمن يشاءون من سدنة بيوت الأصنام ، وخدمتها ، فتنحر أو تذبح عند ما يرى من عيّنت له ذلك ، فتكون لحاجة النّاس والوافدين على بيوت الأصنام وإضافتهم ، وكذلك الزّرع والثّمار تدفع إلى من عيّنت له ، يصرفها حيث يتعيّن. ومن هذا الصّنف أشياء معيّنة بالاسم ، لها حكم منضبط مثل البحيرة : فإنّها لا تنحر ولا تؤكل إلّا إذا ماتت حتف أنفها ، فيحلّ أكلها للرّجال دون النّساء ، وإذا كان لها درّ لا يشربه إلّا سدنة الأصنام وضيوفهم ، وكذلك السائبة ينتفع بدرّها أبناء السّبيل والسدنة ، فإذا ماتت فأكلها كالبحيرة ، وكذلك الحامي ، كما تقدّم في سورة المائدة.
فمعنى (لا يَطْعَمُها) لا يأكل لحمها ، أي يحرم أكل لحمها. ونون الجماعة في (نَشاءُ) مراد بها القائلون ، أي يقولون لا يطعمها إلّا من نشاء ، أي من نعيّن أن يطعمها ، قال في «الكشاف» : يعنون خدم الأوثان والرّجال دون النّساء.
والحرث أصله شق الأرض بآلة حديديّة ليزرع فيها أو يغرس ، ويطلق هذا المصدر على المكان المحروث وعلى الأرض المزروعة والمغروسة وإن لم يكن بها حرث ومنه قوله تعالى : (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) [القلم : ٢٢] فسمّاه حرثا في وقت جذاذ الثّمار.
والحجر : اسم للمحجّر الممنوع ، مثل ذبح للمذبوح ، فمنع الأنعام منع أكل لحومها ، ومنع الحرث منع أكل الحبّ والتّمر والثّمار ، ولذلك قال : (لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ).
وقوله : (بِزَعْمِهِمْ) معترض بين (لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ) وبين : (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها). والباء في : (بِزَعْمِهِمْ) بمعنى (عن) ، أو للملابسة ، أي يقولون ذلك باعتقادهم الباطل ، لأنّهم لمّا قالوا : (لا يَطْعَمُها) لم يريدوا أنّهم منعوا النّاس أكلها إلّا من شاءوه ، لأنّ ذلك من فعلهم وليس من زعمهم. وإنّما أرادوا بالنّفي نفي الإباحة ، أي لا يحلّ أن