وقال البغوي : قالوا : (هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) [الأنعام : ١٣٨] وقالوا : (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) [الأنعام : ١٣٩] وحرّموا البحيرة والسّائبة والوصيلة والحامي ، فلمّا قام الإسلام جادلوا النّبيء صلىاللهعليهوسلم ، وكان خطيبهم مالك بن عوف الجشمي قالوا : يا محمّد بلغنا أنّك تحرّم أشياء ممّا كان آباؤنا يفعلونه. فقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إنّكم قد حرّمتم أصنافا من النّعم على غير أصل ، وإنّما خلق الله هذه الأزواج الثّمانية للأكل والانتفاع بها ، فمن أين جاء هذا التّحريم أمن قبل الذّكر أم من قبل الأنثى. فسكت مالك بن عوف وتحيّر ا ه (أي وذلك قبل أن يسلم مالك بن عوف) ولم يعزه البغوي إلى قائل وهو قريب ممّا قاله قتادة والسّدي ومجاهد فتبيّن أنّ الحجاج كلّه في تحريم أكل بعض هذه الأنواع من الأنعام ، وفي عدم التّفرقة بين ما حرّموا أكله وما لم يحرّموه مع تماثل النّوع أو الصنف.
والّذي يؤخذ من كلام أئمّة العربيّة في نظم الاستدلال على المشركين أنّ الاستفهام في قوله : (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ) في الموضعين. استفهام إنكاري ، قال في «الكشاف» الهمزة في (آلذَّكَرَيْنِ) للإنكار. والمعنى : إنكار أن يحرّم الله تعالى من جنسي الغنم شيئا من نوعي ذكورها وإناثها وما تحمل إناثها وكذلك في جنسي الإبل والبقر ، وبيّنه صاحب «المفتاح» في باب الطلب بقوله : وإن أردت به (أي بالاستفهام) الإنكار فانسجه على منوال النّفي فقل (في إنكار نفس الضرب) أضربت زيدا ، وقل (في إنكار أن يكون للمخاطب مضروب) أزيدا ضربت أم عمرا ، فإنّك إذا أنكرت من يردّد الضّرب بينهما (أي بزعمه) تولّد منه (أي من الإنكار عليه) إنكار الضرب على وجه برهاني ومنه قوله تعالى : (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ). قال شارحه القطب الشّيرازي : لاستلزام انتفاء محلّ التّحريم انتفاء التّحريم لأنّه عرض يمتنع وجوده ، أي التّحريم ، دون محلّ يقوم به فإذا انتفى (أي محلّه) انتفى هو أي التّحريم ا ه.
أقول وجه الاستدلال : أنّ الله لو حرّم أكل بعض الذّكور من أحد النّوعين لحرّم البعض الآخر ، ولو حرّم أكل بعض الإناث لحرّم البعض الآخر. لأنّ شأن أحكام الله أن تكون مطّردة في الأشياء المتّحدة بالنّوع والصّفة ، ولو حرّم بعض ما في بطون الأنعام على النّساء لحرّم ذلك على الرّجال ، وإذ لم يحرّم بعضها على بعض مع تماثل الأنواع والأحوال. أنتج أنّه لم يحرّم البعض المزعوم تحريمه ، لأنّ أحكام الله منوطة بالحكمة ، فدلّ على أنّ ما حرّموه إنّما حرّموه من تلقاء أنفسهم تحكّما واعتباطا ، وكان تحريمهم ما