العرش ، وعن أبي العالية : استوى إلى السّماء ارتفع فسوى خلقهن.
وأحسب أنّ استعارته تختلف بقرينة الحرف الذي يعدّى به فعله ، فإن عدّي بحرف (على) كما في هذه الآية ونظائرها فهو مستعار من معنى الاعتلاء ، مستعمل في اعتلاء مجازي يدلّ على معنى التّمكّن ، فيحتمل أنّه أريد منه التّمثيل ، وهو تمثيل شأن تصرّفه تعالى بتدبير العوالم ، ولذلك نجده بهذا التّركيب في الآيات السّبع واقعا عقب ذكر خلق السّماوات والأرض ، فالمعنى حينئذ : خلقها ثمّ هو يدبّر أمورها تدبير الملك أمور مملكته مستويا على عرشه. وممّا يقرب هذا المعنى قول النّبيء صلىاللهعليهوسلم : «يقبض الله الأرض ويطوي السّماوات يوم القيامة ثمّ يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض». ولذلك أيضا عقب هذا التّركيب في مواقعه كلّها بما فيه معنى التّصرف كقوله هنا (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) إلخ ، وقوله في سورة يونس [٣] : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) ، وقوله في سورة الرّعد [٢] : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ). وقوله في سورة الم السجدة [٤ ، ٥] : (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ). وكمال هذا التّمثيل يقتضي أن يكون كلّ جزء من أجزاء الهيئة الممثّلة مشبها بجزء من أجزاء الهيئة الممثّل بها ، فيقتضي أن يكون ثمة موجود من أجزاء الهيئة الممثّلة مشابها لعرش الملك في العظمة ، وكونه مصدر التّدبير والتّصرف الإلهي يفيض على العوالم قوى تدبيرها. وقد دلّت الآثار الصّحيحة من أقوال الرّسول عليه الصّلاة والسّلام على وجود هذا المخلوق العظيم المسمّى بالعرش كما سنبيّنه.
فأمّا إذا عدّي فعل الاستواء بحرف اللّام فهو مستعار من معنى القصد والتّوجّه إلى معنى تعلّق الإرادة ، كما في قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) [البقرة : ٢٩]. وقد نحا صاحب «الكشاف» نحوا من هذا المعنى ، إلّا أنّه سلك به طريقة الكناية عن الملك : يقولون استوى فلان على العرش يريدون ملك.
والعرش حقيقته الكرسي المرتفع الذي يجلس عليه الملك ، قال تعالى : (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) [النماء : ٢٣] وقال : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) [يوسف : ١٠٠] ، وهو في هذه الآية ونظائرها مستعمل جزءا من التّشبيه المركّب ، ومن بداعة هذا التّشبيه أن كان كلّ جزء من أجزاء الهيئة المشبهة مماثلا لجزء من أجزاء الهيئة المشبّه بها ، وذلك أكمل التّمثيل في البلاغة العربيّة ، كما قدّمته آنفا. وإذ قد كان هذا التّمثيل مقصودا لتقريب شأن من شئون