عظمة ملك الله بحال هيئة من الهيئات المتعارفة ، ناسب أن يشتمل على ما هو شعار أعظم المدبّرين للأمور المتعارفة أعني الملوك ، وذلك شعار العرش الذي من حوله تصدر تصرّفات الملك ، فإنّ تدبير الله لمخلوقاته بأمر التّكوين يكون صدوره بواسطة الملائكة ، وقد بيّن القرآن عمل بعضهم مثل جبريل عليهالسلام وملك الموت ، وبيّنت السنة بعضها : فذكرت ملك الجبال ، وملك الرّياح ، والملك الذي يباشر تكوين الجنين ، ويكتب رزقه وأجله وعاقبته ، وكذلك أشار القرآن إلى أن من الموجودات العلويّة موجودا منوّها به سمّاه العرش ذكره القرآن في آيات كثيرة. ولمّا ذكر خلق السّماوات والأرض وذكر العرش ذكره بما يشعر بأنّه موجود قبل هذا الخلق. وبيّنت السنّة أنّ العرش أعظم من السماوات وما فيهن ، من ذلك حديث عمران بن حصين أنّ النّبيء صلىاللهعليهوسلم قال : «كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثمّ خلق السّماوات والأرض» وحديث أبي هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنّه قال في حديث طويل : «فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنّه أوسط الجنّة ، وأعلى الجنّة وفوقه عرش الرّحمن ومنه تفجّر أنهار الجنّة» وقد قيل إنّ العرش هو الكرسي وأنّه المراد في قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) كما تقدّم الكلام عليه في سورة البقرة [٢٥٥].
وقد دلّت (ثمّ) في قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) على التّراخي الرّتبي أي وأعظم من خلق السّماوات والأرض استواءه على العرش ، تنبيها على أنّ خلق السّماوات والأرض لم يحدث تغييرا في تصرّفات الله بزيادة ولا نقصان ، ولذلك ذكر الاستواء على العرش عقب ذكر خلق السّماوات والأرض في آيات كثيرة ، ولعلّ المقصد من ذلك إبطال ما يقوله اليهود : إنّ الله استراح في اليوم السّابع فهو كالمقصد من قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) [ق : ٣٨].
وجملة (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) في موضع الحال من اسم الجلالة ، ذكر به شيء من عموم تدبيره تعالى وتصرّفه المضمّن في الاستواء على العرش ، وتنبيه على المقصود من الاستواء ، ولذلك جاء به في صورة الحال لا في صورة الخبر ، كما ذكر بوجه العموم في آية سورة يونس [٣] وسورة الرّعد [٢] بقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) وخصّ هذا التّصرف بالذّكر لما يدلّ عليه من عظيم المقدرة ، وما فيه من عبرة التّغيّر ودليل الحدوث ، ولكونه متكرّرا حدوثه في مشاهدة النّاس كلّهم. والإغشاء والتّغشية : جعل الشّيء غاشيا ، والغشي والغشيان حقيقته التّغطية والغمّ.