وجملة : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) واقعة موقع التّفريع على جملة (وَادْعُوهُ) ، فلذلك قرنت ب (إِنَ) الدّالة على التّوكيد ، وهو لمجرّد الاهتمام بالخبر ، إذ ليس المخاطبون بمتردّدين في مضمون الخبر ، ومن شأن (إن) إذا جاءت على هذا الوجه أن تفيد التّعليل وربط مضمون جملتها بمضمون الجملة التي قبلها ، فتغني عن فاء التّفريع ، ولذلك فصلت الجملة عن التي قبلها فلم تعطف لإغناء (إنّ) عن العاطف.
و (رَحْمَةِ اللهِ) : إحسانه وإيتاؤه الخبر.
والقرب حقيقته دنوّ المكان وتجاوره ، ويطلق على الرّجاء مجازا يقال : هذا قريب ، أي ممكن مرجو ، ومنه قوله : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) [المعارج : ٦ ، ٧] فإنّهم كانوا ينكرون الحشر وهو عند الله واقع لا محالة ، فالقريب هنا بمعنى المرجو الحصول وليس بقرب مكان. ودلّ قوله (قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) على مقدّر في الكلام ، أي وأحسنوا لأنّهم إذا دعوا خوفا وطعما فقد تهيّئوا لنبذ ما يوجب الخوف ، واكتساب ما يوجب الطّمع ، لئلا يكون الخوف والطّمع كاذبين ، لأنّ من خاف لا يقدم على المخوف ، ومن طمع لا يترك طلب المطموع ، ويتحقّق ذلك بالإحسان في العمل ويلزم من الإحسان ترك السيّئات ، فلا جرم تكون رحمة الله قريبا منهم ، وسكت عن ضد المحسنين رفقا بالمؤمنين وتعريضا بأنّهم لا يظن بهم أن يسيئوا فتبعد الرّحمة عنهم.
وعدم لحاق علامة التّأنيث لوصف (قَرِيبٌ) مع أنّ موصوفه مؤنّث اللّفظ ، وجّهه علماء العربيّة بوجوه كثيرة ، وأشار إليها في «الكشاف».
وجلّها يحوم حول تأويل الاسم المؤنّث بما يرادفه من اسم مذكّر ، أو الاعتذار بأنّ بعض الموصوف به غير حقيقي التّأنيث كما هنا ، وأحسنها ـ عندي ـ قول الفراء وأبي عبيدة : أنّ قريبا أو بعيدا إذا أطلق على قرابة النّسب أو بعد النّسب فهو مع المؤنّث بتاء ولا بدّ ، وإذا أطلق على قرب المسافة أو بعدها جاز فيه مطابقة موصوفه وجاز فيه التّذكير على التّأويل بالمكان ، وهو الأكثر ، قال الله تعالى : (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود : ٨٣] وقال : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) [الأحزاب : ٦٣]. ولمّا كان إطلاقه في هذه الآية على وجه الاستعارة من قرب المسافة جرى على الشّائع في استعماله في المعنى الحقيقي ، وهذا من لطيف الفروق العربيّة في استعمال المشترك إزالة للإبهام بقدر الإمكان.
(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً