والفاء في قوله : (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) للتّفريع على مضمون معنى (بَيِّنَةٌ) لأنّ البيّنة تدلّ على صدقه ، فلمّا قام الدّليل على صدقه وكان قد أمرهم بالتّوحيد بادئ بدء ، لما فيه من صلاح القلب ، شرع يأمرهم بالشّرائع من الأعمال بعد الإيمان ، كما دلّ عليه قوله الآتي : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فتلك دعوة لمن آمن من قومه بأن يكملوا إيمانهم بالتزام الشّرائع الفرعيّة ، وإبلاغ لمن لم يؤمن بما يلزمهم بعد الإيمان بالله وحده. وفي دعوة شعيب عليهالسلام قومه إلى الأعمال الفرعيّة بعد أن استقرت الدّعوة إلى التّوحيد ما يؤذن بأنّ البشر في ذلك العصر قد تطوّرت نفوسهم تطوّرا هيّأهم لقبول الشّرائع الفرعيّة ، فإنّ دعوة شعيبعليهالسلام كانت أوسع من دعوة الرّسل من قبله هود وصالح عليهمالسلام إذ كان فيها تشريع أحكام فرعيّة وقد كان عصر شعيب عليهالسلام قد أظلّ عصر موسى عليهالسلام الذي جاء بشريعة عظيمة ماسّة نواحي الحياة كلّها.
والبخس فسّروه بالنّقص ، وزاد الرّاغب في «المفردات» قيدا ، فقال : نقص الشّيء على سبيل الظلم ، وأحسن ما رأيت في تفسيره قول أبي بكر بن العربي في «أحكام القرآن» : «البخس في لسان العرب هو النّقص بالتعييب والتّزهيد أو المخادعة عن القيمة أو الاحتيال في التزيد في الكيل والنّقصان منه» فلنبن على أساس كلامه فنقول : البخس هو إنقاص شيء من صفة أو مقدار هو حقيق بكمال في نوعه. ففيه معنى الظلم والتّحيّل ، وقد ذكر ابن سيدة في «المخصص» البخس في باب الذهاب بحقّ الإنسان ، ولكنّه عند ما ذكره وقع فيما وقع فيه غيره من مدوّني اللّغة ، فالبخس حدث يتّصف به فاعل وليس صفة للشّيء المبخوس في ذاته ، إلّا بمعنى الوصف بالمصدر ، كما قال تعالى : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) [يوسف : ٢٠] أي دون قيمة أمثاله ، (أي تساهل بائعوه في ثمنه لأنّهم حصّلوه بغير عوض ولا كلفة). وأعلم أنّه قد يكون البخس متعلّقا بالكمّية كما يقول المشتري : هذا النّحي لا يزن أكثر من عشرة أرطال ، وهو يعلم أنّ مثله يزن اثني عشر رطلا ، أو يقول : ليس على هذا النّخل أكثر من عشرة قناطير تمرا في حين أنّه يعلم أنّه يبلغ عشرين قنطارا ، وقد يكون متعلّقا بالصّفة كما يقول : هذا البعير شرود وهو من الرّواحل ، ويكون طريق البخس قولا ، كما مثّلنا ، وفعلا كما يكون من بذل ثمن رخيص في شيء من شأنه أن يباع غاليا ، والمقصود من البخس أن ينتفع الباخس الرّاغب في السّلعة المبخوسة بأن يصرف النّاس عن الرّغبة فيها فتبقى كلّا على جالبها فيضطرّ إلى بيعها بثمن زهيد ، وقد يقصد منه إلقاء الشكّ في نفس جالب السّلعة بأنّ سلعته هي دون ما