تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) [هود : ٨٤] ومعنى. إيفاء المكيال والميزان أن تكون آلة الكيل وآلة الوزن بمقدار ما يقدّر بها من الأشياء المقدّرة. وإنّما خصّ هذين التحيلين بالأمر والنّهي المذكورين : لأنّهما كانا شائعين عند مدين ، ولأنّ التّحيلات في المعاملة الماليّة تنحصر فيهما إذ كان التّعامل بين أهل البوادي منحصرا في المبادلات بأعيان الأشياء : عرضا وطلبا.
وبهذا يظهر أنّ النّهي في قوله : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أفاد معنى غير الذي أفاده الأمر في قوله : (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ). وليس ذلك النّهي جاريا مجرى العلّة للأمر ، أو التّأكيد لمضمونه ، كما فسّر به بعض المفسّرين.
وما جاء في هذا التّشريع هو أصل من أصول رواج المعاملة بين الأمّة لأنّ المعاملات تعتمد الثّقة المتبادلة بين الأمّة ، وإنّما تحصل بشيوع الأمانة فيها ، فإذا حصل ذلك نشط النّاس للتّعامل فالمنتج يزداد إنتاجا وعرضا في الأسواق ، والطّالب من تاجر أو مستهلك يقبل على الأسواق آمنا لا يخشى غبنا ولا خديعة ولا خلابة ، فتتوفّر السّلع في الأمّة ، وتستغني عن اجتلاب أقواتها وحاجياتها وتحسينياتها ، فيقوم نماء المدينة والحضارة على أساس متين ، ويعيش النّاس في رخاء وتحابب وتآخ ، وبضد ذلك يختلّ حال الأمّة بمقدار تفشي ضدّ ذلك.
وقوله : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) هذا الأصل الثّاني من أصول دعوة شعيب عليهالسلام للنّهي عن كلّ ما يفضي إلى إفساد ما هو على حالة الصّلاح في الأرض. وقد تقدّم القول في نظير هذا التّركيب عند قوله تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) في أوائل هذه السّورة [٥٦].
والإشارة ب (ذلِكُمْ) إلى مجموع ما تضمّنه كلامه ، أي ذلك المذكور ، ولذا أفرد اسم الإشارة. والمذكور : هو عبادة الله وحده ، وإيفاء الكيل والميزان ، وتجنب بخس أشياء النّاس ، وتجنّب الفساد في الأرض. وقد أخبر عنه بأنّه خير لهم ، أي نفع وصلاح تنتظم به أمورهم كقوله تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) [الحج : ٣٦]. وإنّما كان ما ذكر خيرا : لأنّه يوجب هناء العيش واستقرار الأمن وصفاء الودّ بين الأمّة وزوال الإحن المفضية إلى الخصومات والمقاتلات ، فإذا تمّ ذلك كثرت الأمّة وعزّت وهابها أعداؤها وحسنت أحدوثتها وكثر مالها بسبب رغبة