باتباع سبيل المفسدين.
والاتباع أصله المشي على حلف ماش ، وهو هنا مستعار للمشاركة في عمل المفسد ، فإن الطريق مستعار للعمل المؤدي إلى الفساد والمفسد من كان الفساد صفته ، فلما تعلق النهي بسلوك طريق المفسدين كان تحذيرا من كل ما يستروح منه مآل إلى فساد ، لأن المفسدين قد يعملون عملا لا فساد فيه ، فنهي عن المشاركة في عمل من عرف بالفساد ، لأن صدوره عن المعروف بالفساد ، كاف في توقع إفضائه إلى فساد. ففي هذا النهي سد ذريعة الفساد ، وسد ذرائع الفساد من أصول الإسلام ، وقد عني بها مالك بن أنس وكررها في كتابه واشتهرت هذه القاعدة في أصول مذهبه.
فلا جرم أن كان قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) جامعا للنهي عن ثلاث مراتب من مراتب الإفضاء إلى الفساد وهو العمل المعروف بالانتساب إلى المفسد ، وعمل المفسد وإن لم يكن مما اعتاده ، وتجنب الاقتراب من المفسد ومخالطته.
وقد أجرى الله على لسان رسوله موسى ، أو أعلمه ، ما يقتضي أن في رعية هارون مفسدين ، وإنه يوشك إن سلكوا سبيل الفساد أن يسايرهم عليه لما يعلم في نفس هارون من اللين في سياسته ، والاحتياط من حدوث العصيان في قومه ، كما حكى الله عنه في قوله : (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) [الأعراف : ١٥٠] وقوله : (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) [طه : ٩٤].
فليست جملة : (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) مجرد تأكيد لمضمون جملة (وَأَصْلِحْ) تأكيدا للشيء بنفي ضده مثل قوله : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) [النحل : ٢١] لأنها لو كان ذلك هو المقصد منها لجرّدت من حرف العطف ، ولاقتصر على النهي عن الإفساد فقيل : وأصلح لا تفسد ، نعم يحصل من معانيها ما فيه تأكيد لمضمون جملة : (وَأَصْلِحْ).
[١٤٣ ، ١٤٤] (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤))