جعل مجيء موسى في الوقت المعين أمرا حاصلا غير محتاج للإخبار عنه ، للعلم بأن موسى لا يتأخر ولا يترك ذلك ، وجعل تكليم الله إياه في خلال ذلك الميقات أيضا حاصلا غير محتاج للإخبار عن حلوله ، لظهور أن المواعدة المتضمنة للملاقاة تتضمن الكلام ، لأن ملاقاة الله بالمعنى الحقيقي غير ممكنة ، فليس يحصل من شئون المواعدة إلّا الكلام الصادر عن إرادة الله وقدرته ، فلذلك كله جعل مجيء موسى للميقات وتكليم الله إياه شرطا لحرف (لمّا) لأنه كالمعلوم ، وجعل الإخبار متعلقا بما بعد ذلك ، وهو اعتبار بعظمة الله وجلاله ، فكان الكلام ضربا من الإيجاز بحذف الخبر عن جملتين استغناء عنهما بأنهما جعلتا شرطا للمّا.
ويجوز أن تجعل الواو في قوله : (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) زائدة في جواب (لَمَّا) كما قاله الأكثر في قول امرئ القيس :
فلمّا أجزنا ساحة الحي وانتحى |
|
بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل |
أن جواب (لَمَّا) هو قوله وانتحى ، وجوزوه في قوله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُلِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ) [الصافات : ١٠٣ ، ١٠٤] الآية ، أن يكون (وَنادَيْناهُ) هو جواب (لما) فيصير التقدير : لما جاء موسى لميقاتنا كلّمه ربه ، فيكون إيجازا بحذف جملة واحدة ، ولا يستفاد من معنى إنشاء التكليم الطمع في الرؤية إلّا من لازم المواعدة.
واللام في قوله : (لِمِيقاتِنا) صنف من لام الاختصاص ، كما سماها في «الكشاف» ومثلها بقولهم : أتيته لعشر خلون من الشهر ، يعني أنه اختصاص ما ، وجعلها ابن هشام بمعنى عند ، وجعل ذلك من معاني اللام وهو أظهر ، والمعنى : فلما جاء موسى مجيئا خاصا بالميقات أي : حاصلا عنده لا تأخير فيه ، كقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨] وفي الحديث سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم أي الأعمال أفضل فقال : «الصلاة لوقتها» أي عند وقتها ومنه (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الطلاق : ١].
ويجوز جعل اللام للأجل والعلة ، أي جاء لأجل ميقاتنا ، وذلك لما قدمناه من تضمن الميقات معنى الملاقاة والمناجاة ، أي جاء لأجل مناجاتنا.
والمجيء : انتقاله من بين قومه إلى جبل سينا المعيّن فيه مكان المناجاة.
والتكليم حقيقته النطق بالألفاظ المفيدة معاني بحسب وضع مصطلح عليه ، وهذه الحقيقة مستحيلة على الله تعالى لأنها من أعراض الحوادث ، فتعين أن يكون إسناد التكليم