وأوجز هنا إذ من المعلوم أنهم ما سقط في أيديهم ورأوا أنهم ضلوا بعد تصميمهم وتصلبهم في عبادة العجل وقولهم : (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ) [طه : ٩١] ، إلّا بسبب حادث حدث ينكشف لهم بسببه ضلالهم ، فطيّ ذلك من قبيل الإيجاز ليبنى عليه أن ضلالهم لم يلبث أن انكشف لهم ، ولذلك قرن بهذا حكاية اتخاذهم العجل للمبادرة ببيان انكشاف ضلالهم تنهية لقصة ضلالهم ، وكأنه قيل : فسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا ثم قيل ولما سقط أيديهم قالوا.
وقولهم : (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) توبة وإنابة ، وقد علموا أنهم أخطئوا خطيئة عظيمة ، ولذلك أكدوا التعليق الشرطي بالقسم الذي وطأته اللام. وقدموا الرحمة على المغفرة ؛ لأنها سببها.
ومجيء خبر كان مقترنا بحرف (من) التبعيضية ؛ لأن ذلك أقوى في إثبات الخسارة من لنكونن خاسرين كما تقدم في قوله تعالى : (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [الأنعام : ٥٦].
وقرأه الجمهور (يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ) بياء الغيبة في أول الفعلين وبرفع ربّنا ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بتاء الخطاب في أول الفعلين ونصب ربّنا على النداء ، أي قالوا ذلك كله لأنهم دعوا ربهم وتداولوا ذلك بينهم.
[١٥٠ ، ١٥١] (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١))
جعل رجوع موسى إلى قومه غضبان كالأمر الذي وقع الإخبار عنه من قبل على الأسلوب المبين في قوله : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) [الأعراف : ١٤٣] وقوله : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) [الأعراف : ١٤٩]. فرجوع موسى معلوم من تحقق انقضاء المدة الموعود بها ، وكونه رجع في حالة غضب مشعر بأن الله أوحى إليه فأعلمه بما صنع قومه في مغيبه ، وقد صرح بذلك في سورة طه [٨٥] (قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) ف (غَضْبانَ أَسِفاً) حالان من موسى ، فهما قيدان ل (رَجَعَ) فعلم أن الغضب والأسف مقارنان للرجوع.