الفخر عنه ، وهو أحسن تأويلا ، وإمّا أن يكون قد أريد الفعلان ، فذكر أحدهما وحذف الآخر ، وأشير إلى المحذوف بمتعلّقه الصّالح له فيكون من إيجاز الحذف ، وهو اختيار الطّبري ومن تبعه.
وانظر ما قلته عند قوله تعالى : (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ) في سورة طه [٩٢ ، ٩٣].
وقوله : (إِذْ أَمَرْتُكَ) ظرف ل (تَسْجُدَ) ، وتعليق ضميره بالأمر يقتضي أن أمر الملائكة شامل له ، إمّا لأنّه صنف من الملائكة ، فخلق الله إبليس أصلا للجنّ ليجعل منه صنفا متميّزا عن بقيّة الملائكة بقبوله للمعصية ، وهذا هو ظاهر القرآن ، وإليه ذهب كثير من الفقهاء ، وقد قال الله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠] الآية ، وإما لأنّ الجنّ نوع آخر من المجردات ، وإبليس أصل ذلك النّوع ، جعله الله في عداد الملائكة ، فكان أمرهم شاملا له بناء على أن الملائكة خلقوا من النّور وأنّ الجنّ خلقوا من النّار ، وفي «صحيح مسلم» ، عن عائشة رضياللهعنها : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار» وإلى هذا ذهب المعتزلة وبعض الأشاعرة ، وقد يكون المراد من النّار نورا مخلوطا بالمادة ، ويكون المراد بالنّور نورا مجردا ، فيكون الجنّ نوعا من جنس الملائكة أحطّ ، كما كان الإنسان نوعا من جنس الحيوان أرقى.
وفصل : (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) لوقوعه على طريقة المحاورات.
وبيّن مانعه من السّجود بأنّه رأى نفسه خيرا من آدم ، فلم يمتثل لأمر الله تعالى إياه بالسّجود لآدم ، وهذا معصية صريحة ، وقوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) مسوق مساق التّعليل للامتناع ولذلك حذف منه اللام.
وجملة : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ) بيان لجملة : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) فلذلك فصلت ، لأنّها بمنزلة عطف البيان من المبيّن.
وحصل لإبليس العلم بكونه مخلوقا من نار ، بإخبار من الملائكة الذين شهدوا خلقه ، أو بإخبار من الله تعالى.
وكونه مخلوقا من النّار ثابت قال تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) [الرحمن : ١٤ ، ١٥] وإبليس من جنس الجنّ قال تعالى في سورة الكهف [٥٠] : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ).