وهم كانوا يكتمونها ، وذلك أن الحوادث التي تكون مواعظ للأمة فيما اجترحته من المخالفات والمعاصي تبقي لها عقب الموعظة أثرا قد تعيّر الأمة به ، ولكن ذلك التعيير لا يؤبه به في جانب ما يحصل من النفع لها بالموعظة ، فالأمة في خويصّتها لا يهتم قادتها ونصحاؤها إلّا بإصلاح الحال ، وإن كان في ذكر بعض تلك الأحوال غضاضة عندها وامتعاض ، فإذا جاء حكم التاريخ العام بين الأمم تناولت الأمم أحوال تلك الأمة بالحكم لها وعليها ، فبقيت حوادث فلتاتها مغمزا عليها ومعرّة تعير بها ، وكذلك كان شأن اليهود لما أضاعوا ملكهم ووطنهم وجاوروا ـ أمما أخرى فأصبحوا يكتمون عن أولئك الجيرة مساوي تاريخهم ، حتى أرسل الله محمدا صلىاللهعليهوسلم فعلّمه من أحوالهم ما فيه معجزة لأسلافهم ، وما بقي معرّة لأخلافهم ، وذلك تحدّ لهم ، ووخز على سوء تلقيهم الدعوة المحمدية بالمكر والحسد.
فالسؤال هنا في معنى التقريع لتقريع بني إسرائيل وتوبيخهم وعد سوابق عصيانهم أي ليس عصيانهم إياك ببدع ، فإن ذلك شنشنة قديمة فيهم ، وليس سؤال الاستفادة لأن الرسول صلىاللهعليهوسلم قد أعلم بذلك من جانب ربه تعالى ، وهو نظير همزة الاستفهام التقريري فوزان (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) وزان : أعدوتم في السبت ، فإن السؤال في كلام العرب على نوعين أشهرهما أن يسأل السائل عما لا يعلمه ليعلمه ، والآخران يسأل على وجه التقرير حين يكون السائل يعلم حصول المسئول عنه ، ويعلم المسئول أن السائل عالم وأنه إنما سأله ليقرره.
وجملة : (وَسْئَلْهُمْ) عطف على جملة : (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) [الأعراف : ١٦١] واقعة معترضة بين قصص الامتنان وقصص الانتقام الآتية في قوله : (وَقَطَّعْناهُمْ) [الأعراف : ١٦٨] ، ومناسبة الانتقال إلى هذه القصة إن في كلتا القصتين حديثا يتعلق بأهل قرية من قرى بني إسرائيل.
وتقدم ذكر القرية عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) الآية من سورة البقرة [٦٥].
وهذه القرية قيل : (أيلة) وهي المسماة اليوم (العقبة) وهي مدينة على ساحل البحر الأحمر قرب شبه جزيرة طور سينا ، وهي مبدأ أرض الشام من جهة مصر ، وكانت من مملكة إسرائيل في زمان داود عليهالسلام ، ووصفت بأنها حاضرة البحر بمعنى الاتصال بالبحر والقرب منه ، لأن الحضور يستلزم القرب ، وكانت (أيلة) متصلة بخليج من البحر