وقوله : (مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل (مِنْ بَنِي آدَمَ) أبدل بعض من كل ، وقد أعيد حرف الجر مع البدل للتأكيد كما تقدم في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) في سورة الأنعام [٩٩].
والإشهاد على الأنفس يطلق على ما يساوي الإقرار أو الحمل عليه ، وهو هنا الحمل على الإقرار ، واستعير لحالة مغيبة تتضمن هذا الإقرار يعلمها الله لاستقرار معنى هذا الاعتراف في فطرتهم. والضمير في (أَشْهَدَهُمْ) عائد على الذرية باعتبار معناه ، لأنه اسم يدل على جمع.
والقول في (قالُوا بَلى) مستعار أيضا لدلالة حالهم على الاعتراف بالربوبية لله تعالى.
وجملة (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) مقول لقول محذوف هو بيان لجملة (أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي قررهم بهذا القول وهو من أمر التكوين. والمعنى واحد ، لأن الذرية لما أضيف إلى ضمير بني آدم كان على معنى التوزيع.
والاستفهام في (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) تقريري ، ومثله يقال في تقرير من يظن به الإنكار أو ينزل منزلة ذلك ، فلذلك يقرر على النفي استدراجا له حتى إذا كان عاقدا قلبه على النفي ظن أن المقرّر يطلبه منه ، فأقدم على الجواب بالنفي ، فأما إذا لم يكن عاقدا قلبه عليه فإنه يجيب بإبطال النفي ، فيتحقق أنه بريء من نفي ذلك ، وعليه قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) [الأحقاف : ٣٤] تنزيلا لهم منزلة من يظنه ليس بحق ، لأنهم كانوا ينكرونه في الدنيا ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) في سورة الأنعام [١٣٠].
والكلام تمثيل حال من أحوال الغيب ، من تسلط أمر التكوين الإلهي على ذوات الكائنات وأعراضها عند إرادة تكوينها ، لا تبلغ النفوس إلى تصورها بالكنه ، لأنها وراء المعتاد المألوف ، فيراد تقريبها بهذا التمثيل ، وحاصل المعنى : أن الله خلق في الإنسان من وقت تكوينه إدراك أدلة الوحدانية ، وجعل في فطرة حركة تفكير الإنسان التطلع إلى إدراك ذلك ، وتحصيل إدراكه إذا جرد نفسه من العوارض التي تدخل على فطرته فتفسدها.
وجملة : (قالُوا بَلى) جواب عن الاستفهام التقريري ، وفصلت لأنها جاءت على طريقة المحاورة كما تقدم في قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في سورة