فحصل من مجموع الجملتين أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، في عالم الشهادة وفي عالم الغيب ، وأنه لا يعلم شيئا من الغيب ، مما فيه نفعه وضره وما عداه.
والاستدلال على انتفاء علمه بالغيب بانتفاء الاستكثار من الخير ، وتجنب السوء ، استدلال بأخص ما لو علم المرء الغيب لعلمه ، أول ما يعلم وهو الغيب الذي يهم نفسه ، ولأن الله لو أراد اطلاعه على الغيب ؛ لكان القصد من ذلك إكرام الرسول صلىاللهعليهوسلم ـ فيكون اطلاعه على ما فيه راحته أول ما ينبغي اطلاعه عليه ، فإذا انتفى ذلك كان انتفاء غيره أولى.
ودلي التالي ، في هذه القضية الشرطية ، هو المشاهدة من فوات خيرات دنيوية لم يتهيأ لتحصيلها وحصول أسواء دنيوية ، وفيه تعريض لهم إذ كانوا يتعرضون له السوء.
وجملة : (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) من تمام القول المأمور به وهي مستأنفة استينافا بيانيا ، ناشئا عن التبرّؤ من أن يملك لنفسه نفعا أو ضرا لأن السامعين يتوهمون ما نفاه عن نفسه أخص صفات النبي فمن شأنهم أن يتعجبوا من نفيه ذلك عن نفسه وهو يقول إنه رسول الله إليهم ، ويسألوا عن عمله ما هو بعد أن نفي عنه ما نفي ، فبين لهم أن الرسالة منحصرة في النذارة على المفاسد وعواقبها والبشارة بعواقب الانتهاء عنها واكتساب الخيرات.
وإنما قدم وصف النذير على وصف البشير ، هنا : لأن المقام خطاب المكذبين المشركين ، فالنذارة أعلق بهم من البشارة.
وتقدم الكلام على النذير البشير عند قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) في سورة البقرة [١١٩].
وقوله : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يتنازع تعلّقه كل من (نَذِيرٌ) و (بَشِيرٌ) : لأن الانتفاع بالأمرين يختص بالذين تهيئوا إلى الإيمان بأن يتأملوا في الآيات وينهوا من أنفسهم ويقولوا الحق على آبائهم ، دون الذين جعلوا ديدنهم التكذيب والإعراض والمكابرة ، فالمضارع مراد به الحال والاستقبال كما هو شأنه ، ليشمل من تهيأ للإيمان حالا ومآلا ، وأما شموله لمن آمنوا فيما مضى فهو بدلالة فحوى الخطاب إذ هم أولى ، وهذا على حد قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥].
وفي نظم الكلام على هذا الأسلوب من التنازع ، وإيلاء وصف (البشير) ب (قوم