يلتفت لا ينظر إلى الشيء وقد فسر ذلك في قوله تعالى : (أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) [الإسراء : ٨٣] وهو هنا ، مستعار لعدم المؤاخذة بما يسوء من أحد ، شبه عدم المؤاخذة على العمل بعدم الالتفات إليه في كونه لا يترتب عليه أثر العلم به لأن شأن العلم به أن تترتب عليه المؤاخذة.
و «الجهل» هنا ضد الحلم والرشد ، وهو أشهر إطلاق الجهل في كلام العرب قبل الإسلام ، فالمراد بالجاهلين السفهاء كلهم لأن التعريف فيه للاستغراق ، وأعظم الجهل هو الإشراك ، إذ اتخاذ الحجر إلها سفاهة لا تعدلها سفاهة ، ثم يشمل كل سفيه رأي. وكذلك فهم منها الحر بن قيس في الخبر المتقدم آنفا ، وأقره عمر بن الخطاب على ذلك الفهم.
وقد جمعت هذه الآية مكارم الأخلاق لأن فضائل الأخلاق لا تعدو أن تكون عفوا عن اعتداء فتدخل في (خُذِ الْعَفْوَ) ، أو إغضاء عما لا يلائم فتدخل في (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) ، أو فعل خير واتساما بفضيلة فتدخل في (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) كما تقدم من الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء ، وهذا معنى قول جعفر بن محمد : «في هذه الآية أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها وهي صالحة لأن يبين بعضها بعضا ، فإن الأمر يأخذ العفو يتقيد بوجوب الأمر بالعرف ، وذلك في كل ما لا يقبل العفو والمسامحة من الحقوق ، وكذلك الأمر بالعرف يتقيد بأخذ العفو وذلك بأن يدعو الناس إلى الخير بلين ورفق.
(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠))
وهذا الأمر مراد به رسول الله صلىاللهعليهوسلم ابتداء وهو شامل لأمته.
(إما) هذه هي (إن) الشرطية اتصلت بها (ما) الزائدة التي تزاد على بعض الأسماء غير أدوات الشروط فتصيرها أدواتها ، نحو (مهما) فإن أصلها ماما ، ونحو (إذ ما) و (أينما) و (أيانما) و (حيثما) و (كيفما) فلا جرم أن (ما) إذا اقترنت بما يدل على الشرط اكتسبته قوة شرطية فلذلك كتبت (إما) هذه على صورة النطق بها ولم تكتب مفصولة النون عن (ما).
والنزغ النخس والغرز ، كذا فسره في «الكشاف» وهو التحقيق ، وأما الراغب وابن عطية فقيداه بأنه دخول شيء في شيء لإفساده ، (قلت : وقريب منه الفسخ بالسين وهو الغرز بإبرة أو نحوها للوشم) قال ابن عطية «وقلّما يستعمل في غير فعل الشيطان (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) [يوسف : ١٠٠].