قد علم حينئذ أنّ الخلود متعذر ، وأنّ الموت والحشر والبعث مكتوب على النّاس ، فإنّ ذلك يتلقّى من الوحي كما في قوله تعالى لهما في الآية الأخرى : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) [البقرة : ٣٦].
(وَقاسَمَهُما) أي حلف لهما بما يوهم صدقه ، والمقاسمة مفاعلة من أقسم إذا حلف ، حذفت منه الهمزة عند صوغ المفاعلة ، كما حذفت في المكارمة ، والمفاعلة هنا للمبالغة في الفعل ، وليست لحصول الفعل من الجانبين ، ونظيرها : عافاه الله ، وجعله في «الكشاف» : كأنّهما قالا له تقسم بالله إنّك لمن النّاصحين فأقسم فجعل طلبهما القسم بمنزلة القسم ، أي فتكون المفاعلة مجازا ، قال أو أقسم لهما بالنّصيحة وأقسما له بقبولها ، فتكون المفاعلة على بابها ، وتأكيد إخباره عن نفسه بالنّصح لهما بثلاث مؤكدات دليل على مبلغ شكّ آدم وزوجه في نصحه لهما ، وما رأى عليهما من مخائل التّردّد في صدقه ، وإنّما شكّا في نصحه لأنّهما وجدا ما يأمرهما مخالفا لما أمرهما الله الذي يعلمان إرادته بهما الخير علما حاصلا بالفطرة.
(فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢))
(فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ).
تفريع على جملة : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) [الأعراف : ٢٠] وما عطف عليها.
ومعنى (فَدَلَّاهُما) أقدمهما ففعلا فعلا يطمعان به في نفع فخابا فيه ، وأصل دلّى ، تمثيل حال من يطلب شيئا من مظنّته فلا يجده بحال من يدلّي دلوه أو رجليه في البئر ليستقي من مائها فلا يجد فيها ماء فيقال : دلّى فلان ، يقال دلّى كما يقال أدلى.
والباء للملابسة أي دلاهما ملابسا للغرور أي لاستيلاء الغرور عليه إذ الغرور هو اعتقاد الشيء نافعا بحسب ظاهر حاله ولا نفع فيه عند تجربته ، وعلى هذا القياس يقال دلّاه بغرور إذا أوقعه في الطّمع فيما لا نفع فيه ، كما في هذه الآية وقول أبي جندب الهذلي (هو ابن مرّة ولم أقف على تعريفه فإن كان إسلاميا كان قد أخذ قوله كمن يدلّى بالغرور من القرآن ، وإلّا كان مثلا مستعملا من قبل) :