الفطري ، حيث لا ملقّن يلقّنهما ذلك ، ولا تعليم يعلمهما ، تقرّر في نفوس النّاس أنّ كشف العورة قبيح في الفطرة ، وأنّ سترها متعيّن ، وهذا من حكم القوّة الواهمة الذي قارن البشر في نشأته ، فدلّ على أنّه وهم فطري متأصّل ، فلذلك جاء دين الفطرة بتقرير ستر العورة ، مشايعة لما استقرّ في نفوس البشر ، وقد جعل الله للقوّة الواهمة سلطانا على نفوس البشر في عصور طويلة ، لأنّ في اتّباعها عونا على تهذيب طباعه ، ونزع الجلافة الحيوانية من النّوع ، لأنّ الواهمة لا توجد في الحيوان ، ثمّ أخذت الشّرائع ، ووصايا الحكماء ، وآداب المربّين ، تزيل من عقول البشر متابعة الأوهام تدريجا مع الزّمان ، ولا يبقون منها إلّا ما لا بد منه لاستبقاء الفضيلة في العادة بين البشر ، حتّى جاء الإسلام وهو الشّريعة الخاتمة فكان نوط الأحكام في دين الإسلام بالأمور الوهميّة ملغى في غالب الأحكام ، كما فصّلته في كتاب «مقاصد الشّريعة» وكتاب «أصول نظام الاجتماع في الإسلام».
والخصف حقيقته تقوية الطّبقة من النّعل بطبقة أخرى لتشتدّ ، ويستعمل مجازا مرسلا في مطلق التّقوية للخرقة والثّوب ، ومنه ثوب خصيف أي مخصوف أي غليظ النّسج لا يشف عمّا تحته ، فمعنى يخصفان يضعان على عوراتهما الورق بعضه على بعض كفعل الخاصف ، وضعا ملزقا متمكّنا ، وهذا هو الظّاهر هنا إذ لم يقل يخصفان ورق الجنّة.
و (من) في قوله : (مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) يجوز كونها اسما بمعنى بعض في موضع مفعول (يَخْصِفانِ) أي يخصفان بعض ورق الجنة ، كما في قوله : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ) ، ويجوز كونها بيانيّة لمفعول محذوف يقتضيه : «(يَخْصِفانِ) والتقدير : يخصفان خصفا من ورق الجنة.
(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣))
عطف على جواب (لمّا) ، فهو ممّا حصل عند ذوق الشّجرة ، وقد رتب الإخبار عن الأمور الحاصلة عند ذوق الشّجرة على حسب ترتيب حصولها في الوجود. فإنّهما بدت لهما سوآتهما فطفقا يخصفان. وأعقب ذلك نداء الله إيّاهما.
وهذا أصل في ترتيب الجمل في صناعة الإنشاء ، إلّا إذا اقتضى المقام العدول عن ذلك ، ونظير هذا الترتيب ما في قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) [هود : ٧٧] وقد بيّنته في كتاب «أصول الإنشاء والخطابة»