وجملة : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تذييل للمنة ، أي : أوحى إلى رسوله بتلك الرؤيا الرمزية ، لعلمه بما في الصدور البشرية من تأثّر النفوس بالمشاهدات والمحسوسات أكثر ممّا تتأثّر بالاعتقادات ، فعلم أنّه لو أخبركم بأنّ المشركين ينهزمون ، واعتقدتم ذلك لصدق إيمانكم ، لم يكن ذلك الاعتقاد مثيرا في نفوسكم من الشجاعة والإقدام ما يثيره اعتقادي أنّ عددهم قليل ، لأنّ الاعتقاد بأنّهم ينهزمون لا ينافي توقّع شدّة تنزل بالمسلمين ، من موت وجراح قبل الانتصار ، فأمّا اعتقاد قلّة العدوّ فإنّها تثير في النفوس إقداما واطمئنان بال ، فلعلمه بذلك أراكهم الله في منامك قليلا.
ومعنى (بِذاتِ الصُّدُورِ) الأحوال المصاحبة لضمائر النفوس ، فالصدور أطلقت على ما حلّ فيها من النوايا والمضمرات ، فكلمة ذات بمعنى صاحبة ، وهي مؤنث (ذو) أحد الأسماء الخمسة ، فأصل ألفها الواو ووزنها (ذوت) انقلبت واوها ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها ، قال في «الكشّاف» في تفسير سورة فاطر [٣٨] في قوله تعالى : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) هي تأنيث ذو ، وذو موضوع لمعنى الصحبة من قوله :
لتغني عنّي ذا إنائك أجمعا (١)
يعني أنّ ذات الصدور الحالة التي قرارتها الصدور فهي صاحبتها وساكنتها ، فذات الصدور النوايا والخواطر وما يهمّ به المرء وما يدبّره ويكيده.
(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤))
(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) عطف على (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ) [الأنفال : ٤٣] وهذه رؤية بصر أراها الله الفريقين على خلاف ما في نفس الأمر ، فكانت خطأ من الفريقين ، ولم يرها النبي صلىاللهعليهوسلم
__________________
(١) أوله ، إذا قال قلت بالله حلفة.
يذكر ضيفا أي إذا شرب الضيف من إناء اللبن وقال : قدني ، أي حسبي أقسمت عليه بالله لتغنى عني أذاك أجمعا فاللام في (لتغني) لام القسم وهي مفتوحة وتغنى أي تبعد عني ، يقولون أغن عني وجهك أي أبعده وأراد : لا ترجعه إلى. وذا انائك : أي ما في إنائك من اللبن وهو مفعول (تغني) أي حلفت عليه ليشربن جميع ما في الإناء. والياء لتحتيه في قوله : لتغني مفتوحة فتحة بناء ، فإن أصله لتغنين بنون توكيد فحذفها تخفيفا وأبقى الفتحة التي كانت قبلها دليلا على أنها محذوفة.