المشركين كانوا عددا كثيرا فناسب أن يحكي تقليلهم بإراءتهم قليلا ، المؤذنة بأنّهم ليسوا بالقليل. وأمّا المسلمون فكانوا عددا قليلا بالنسبة لعدوّهم ، فكان المناسب لتقليلهم : أن يعبّر عنه بأنّه «تقليل» المؤذن بأنّه زيادة في قلّتهم.
وجملة : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) تذييل معطوف على ما قبله عطفا اعتراضيا ، وهو اعتراض في آخر الكلام ، وهذا العطف يسمّى : عطفا اعتراضيّا ، لأنّه عطف صوريّ ليست فيه مشاركة في الحكم ، وتسمّى الواو اعتراضية. والتعريف في قوله : (الْأُمُورُ) للاستغراق ، أي جميع الأشياء.
والرجوع هنا مستعمل في الأول وانتهاء الشيء ، والمراد رجوع أسبابها ، أي إيجادها ، فإنّ الأسباب قد تلوح جارية بتصرّف العباد وتأثير الحوادث ، ولكن الأسباب العالية ، وهي الأسباب التي تتصاعد إليها الأسباب المعتادة ، لا يتصرّف فيها إلّا الله وهو مؤثّرها وموجدها. على أنّ جميع الأسباب ، عاليها وقريبها ، متأثر بما أودع الله فيها من القوى والنواميس والطبائع ، فرجوع الجميع إليه ، ولكنّه رجوع متفاوت على حسب جريه على النظام المعتاد ، وعدم جريه ، فإيجاد الأشياء قد يلوح حصوله بفعل بعض الحوادث والعباد ، وهو عند التأمّل الحقّ راجع إلى إيجاد الله تعالى خالق كلّ صانع. والذوات وأحوالها كلّها من الأمور ، ومآلها كلّه رجوع ، فهذا ليس رجوع ذوات ولكنه رجوع تصرّف ، كالذي في قوله : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ١٥٦].
والمعنى : ولا عجب في ما كوّنه الله من رؤية الجيشين على خلاف حالهما في نفس الأمر ، فإنّ الإراءة المعتادة ترجع إلى ما وضعه الله من الأسباب المعتادة ، والإراءة غير المعتادة راجعة إلى أسباب يضعها الله عند إرادته.
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب (تُرْجَعُ) ـ بضمّ التاء وفتح الجيم ـ أي يرجعها ، راجع إلى الله ، والذي يرجعها هو الله فهو يرجعها إليه. وقرأ البقية (تُرْجَعُ) ـ بفتح التاء وكسر الجيم ـ أي : ترجع بنفسها إلى الله ، ورجوعها هو برجوع أسبابها.
[٤٥ ، ٤٦] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦))
لمّا عرّفهم الله بنعمه ودلائل عنايته ، وكشف لهم عن سرّ من أسرار نصره إيّاهم ،