وكيف خذل أعداءهم ، وصرفهم عن أذاهم ، فاستتبّ لهم النصر مع قلتهم وكثرة أعدائهم ، أقبل في هذه الآية على أن يأمرهم بما يهيّئ لهم النصر في المواقع كلّها ، ويستدعي عناية الله بهم وتأييده إيّاهم ، فجمع لهم في هذه الآية ما به قوام النصر في الحروب. وهذه الجمل معترضة بين جملة : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) [الأنفال : ٤٤] وجملة : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [الأنفال : ٤٨].
وافتتحت هذه الوصايا بالنداء اهتماما بها ، وجعل طريق تعريف المنادى طريق الموصولية لما تؤذن به الصلة من الاستعداد لامتثال ما يأمرهم به الله تعالى ، لأنّ ذلك أخصّ صفاتهم تلقاء أوامر الله تعالى ، كما قال تعالى : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) [النور : ٥١].
واللقاء : أصله مصادفة الشخص ومواجهته ، باجتماع في مكان واحد ، كما تقدّم عند قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) [البقرة : ٣٧] وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) في سورة البقرة [٢٢٣]. وقد غلب إطلاقه على لقاء خاصّ وهو لقاء القتال ، فيرادف القتال والنزال.
وقد تقدم اللقاء قريبا في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال : ١٥] وبهذا المعنى تعيّن أنّ المراد بالفئة : فئة خاصّة وهي فئة العدوّ ، يعني المشركين.
و «الفئة» الجماعة من الناس ، وقد تقدّم اشتقاقها عند قوله تعالى : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً) في سورة البقرة [٢٤٩].
وذكر الله ، المأمور به هنا : هو ذكره باللسان ، لأنّه يتضمّن ذكر القلب ، وزيادة فإنّه إذا ذكر بلسانه فقد ذكر بقلبه وبلسانه ، وسمع الذكر بسمعه ، وذكّر من يليه بذلك الذّكر ، ففيه فوائد زائدة على ذكر القلب المجرّد ، وقرينة إرادة ذكر اللسان ظاهر وصفه ب «كثير» لأنّ الذكر بالقلب يوصف بالقوة ، والمقصود تذكر أنّه الناصر. وهذان أمران أمروا بهما وهما يخصّان المجاهد في نفسه ، ولذلك قال : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). فهما لإصلاح الأفراد ، ثم أمرهم بأعمال راجعة إلى انتظام جيشهم وجماعتهم ، وهي علائق بعضهم مع بعض ، وهي الطاعة وترك التنازع ، فأمّا طاعة الله ورسوله فتشمل اتّباع سائر أحكام القتال المشروعة بالتعيين ، مثل الغنائم. وكذلك ما يأمرهم به الرسول صلىاللهعليهوسلم من آراء الحرب ، كقوله للرّماة يوم أحد : «لا تبرحوا من مكانكم ولو تخطّفنا الطير». وتشمل طاعة الرسول عليه