والتوفية : أداء الحقّ كاملا ، جعل الله ذلك الإنفاق كالقرض لله ، وجعل على الإنفاق جزاء ، فسمّى جزاءه توفية على طريقة الاستعارة المكنية ، وتدلّ التوفية على أنّه يشمل الأجر في الدنيا مع أجر الآخرة ، ونقل ذلك عن ابن عباس.
وتعدية التوفية إلى الإنفاق بطريق بناء للفعل للنائب ، وإنّما الذي يوفّى هو الجزاء على الإنفاق في سبيل الله ، للإشارة إلى أنّ الموفّى هو الثواب. والتوفية تكون على قدر الإنفاق وأنّها مثله ، كما يقال : وفّاه دينه ، وإنّما وفّاه مماثلا لدينه. وقريب منه قولهم : قضى صلاة الظهر ، وإنّما قضى صلاة بمقدارها فالإسناد : إمّا مجاز عقلي ، أو هو مجاز بالحذف.
والظلم : هنا مستعمل في النقص من الحقّ ، لأنّ نقص الحقّ ظلم ، وتسمية النقص من الحقّ ظلما حقيقة. وليس هو كالذي في قوله تعالى : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [الكهف : ٣٣].
(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١))
انتقال من بيان أحوال معاملة العدوّ في الحرب : من وفائهم بالعهد ، وخيانتهم ، وكيف يحلّ المسلمون العهد معهم إن خافوا خيانتهم ، ومعاملتهم إذا ظفروا بالخائنين ، والأمر
بالاستعداد لهم ؛ إلى بيان أحكام السلم إن طلبوا السلم والمهادنة ، وكفّوا عن حالة الحرب. فأمر الله المسلمين بأن لا يأنفوا من السلم وأن يوافقوا من سأله منهم.
والجنوح : الميل ، وهو مشتقّ من جناح الطائر : لأنّ الطائر إذا أراد النزول مال بأحد جناحيه ، وهو جناح جانبه الذي ينزل منه ، قال النابغة يصف الطير تتبع الجيش :
جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله |
|
إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب |
فمعنى (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) إن مالوا إلى السلم ميل القاصد إليه ، كما يميل الطائر الجانح. وإنّما لم يقل : وإن طلبوا السلم فأجبهم إليهم ، للتنبيه على أنّه لا يسعفهم إلى السلم حتى يعلم أن حالهم حال الراغب ، لأنّهم قد يظهرون الميل إلى السلم كيدا ، فهذا مقابل قوله: (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : ٥٨] فإن نبذ العهد نبذ لحال السلم.
واللام في قوله : (لِلسَّلْمِ) واقعة موقع (إلى) لتقوية التنبيه على أنّ ميلهم إلى السلم