الناس في الجاهلية ، فكانت سبب التقاتل بين القبائل ، بعضها مع بعض ، وبين بطون القبيلة الواحدة. وأقوالهم في ذلك كثيرة. ومنها قول الفضل بن العبّاس اللهبي :
مهلا بني عمّنا مهلا موالينا |
|
لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا |
الله يعلم أنّا لا نحبكمو |
|
ولا نلومكمو أن لا تحبونا |
فلمّا آمنوا بمحمد صلىاللهعليهوسلم انقلبت البغضاء بينهم مودّة ، كما قال تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) [آل عمران : ١٠٣] ، وما كان ذلك التآلف والتحابّ إلّا بتقدير الله تعالى فإنّه لم يحصل من قبل بوشائج الأنساب ، ولا بدعوات ذوي الألباب.
ولذلك استأنف بعد قوله : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) قوله : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) استئنافا ناشئا عن مساق الامتنان بهذا الائتلاف ، فهو بياني ، أي : لو حاولت تأليفهم ببذل المال العظيم ما حصل التآلف بينهم.
فقوله : (ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) مبالغة حسنة لوقوعها مع حرف (لو) الدالّ على عدم الوقوع. وأمّا ترتّب الجزاء على الشرط فلا مبالغة فيه ، فكان التأليف بينهم من آيات هذا الدين ، لما نظّم الله من ألفتهم ، وأماط عنهم من التباغض. ومن أعظم مشاهد ذلك ما حدث بين الأوس والخزرج من الإحن قبل الإسلام ممّا نشأت عنه حرب بعاث بينهم ، ثم أصبحوا بعد حين إخوانا أنصارا لله تعالى ، وأزال الله من قلوبهم البغضاء بينهم.
و (جَمِيعاً) منصوبا على الحال من (ما فِي الْأَرْضِ) وهو اسم على وزن فعيل بمعنى مجتمع ، وسيأتي بيانه عند قوله تعالى : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) في سورة هود [٥٥].
وموقع الاستدراك في قوله : (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) لأجل ما يتوهّم من تعذّر التأليف بينهم في قوله : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي ولكن تكوين الله يلين به الصلب ويحصل به المتعذر.
والخطاب في (أَنْفَقْتَ) و (أَلَّفْتَ) للرسول صلىاللهعليهوسلم باعتبار أنّه أول من دعا إلى الله. وإذ كان هذا التكوين صنعا عجيبا ذيّل الله الخبر عنه بقوله : (إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي قوي القدرة فلا يعجزه شيء ، محكم التكوين فهو يكوّن المتعذر ، ويجعله كالأمر المسنون المألوف.