المجاز في النفي بأن يحمل على نفي رمي كامل ، فإن العرب قد ينفون الفعل ومرادهم نفي كماله حتى قد يجمعون بين الشيء وإثباته أو نفي ضده بهذا الاعتبار ، كقول عباس بن مرداس :
فلم أعط شيئا ولم أمنع
أي شيئا مجديا ، فدل قوله : (إِذْ رَمَيْتَ) على أن المراد بالنفي في قوله : (وَما رَمَيْتَ) هو الرمي بمعنى أثره وحصول المقصود منه ، وليس المراد نفي وقوع الرمي مثل المراد في قوله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) لأن الرمي واقع من يد النبي صلىاللهعليهوسلم ولكن المراد نفي تأثيره ، فإن المقصود من ذلك الرمي إصابة عيون أهل جيش المشركين وما كان ذلك بالذي يحصل برمي اليد ، لأن أثر رمي البشر لا يبلغ أثره مبلغ تلك الرمية ، فلما ظهر من أثرها ما عم الجيش كلهم ، علم انتفاء أن تكون تلك الرمية مدفوعة بيد مخلوق ، ولكنها مدفوعة بقدرة الخالق الخارجة عن الحد المتعارف ، وأن المراد بإثبات الرمي في قوله : (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) كالقول في (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ).
وقرأ نافع والجمهور (وَلكِنَ) بتشديد النون في الموضعين وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي بسكون النون فيهما.
(وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
عطف على محذوف يؤذن به قوله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) الآية وقوله ـ (وَما رَمَيْتَ) الآية.
فإن قتلهم المشركين وإصابة أعينهم كانا الغرض هزم المشركين فهو العلة الأصلية ، وله علة أخرى وهي أن يبلي الله المؤمنين بلاء حسنا أي يعطيهم عطاء حسنا يشكرونه عليه ، فيظهر ما يدل عن قيامهم بشكره مما تختبر به طويتهم لمن لا يعرفها ، وهذا العطاء هو النصر والغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة.
وأعلم أن أصل مادة هذا الفعل هي البلاء وجاء منه الإبلاء بالهمز وتصريف هذا الفعل أغفله الراغب في «المفردات» ومن رأيت من المفسرين ، وهو مضارع أبلاه إذا أحسن إليه مشتق من البلاء والبلوى الذي أصله الاختيار ثم أطلق على إصابة أحد أحدا بشيء يظهر به مقدار تأثره ، والغالب أن الإصابة بشرّ ، ثم توسع فيه فأطلق على ما يشمل الإصابة بخير قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] وهو إطلاق كنائي