ولما كان (لو) حرفا يفيد امتناع حصول جوابه بسبب حصول شرطه ، كان أصل معنى (لَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) ولو كان في إدراكهم خير يعلمه الله لقبلوا هديه ولكنهم لا خير في جبلة مداركهم فلا يعلم الله فيهم خيرا ، فلذلك لم ينتفعوا بكلام الله فهم كمن لا يسمع.
فوقعت الكناية عن عدم استعداد مداركهم للخير ، بعلم الله عدم الخير فيهم. ووقع تشبيه عدم انتفاعهم بفهم آيات القرآن بعدم إسماع الله إياهم ، لأن الآيات كلام الله فإذا لم يقبلوها فكأن الله لم يسمعهم كلامه فالمراد انتفاء الخير الجبلي عنهم ، وهو القابلية للخير ، ومعلوم أن انتفاء علم الله بشيء يساوي علمه بعدمه لأن علم الله لا يختلف عن شيء.
فصار معنى (لَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً) لو كان في نفوسهم خير ، وعبر عن قبولهم الخير المسموع وانفعال نفوسهم به بإسماع الله إياهم ما يبلغهم الرسول عليه الصلاة والسلام من القرآن والمواعظ ، فالمراد انتفاء الخير الانفعالي عنهم وهو التخلّق والامتثال لما يسمعونه من الخير.
وحاصل المعنى : لو جبلهم الله على قبول الخير لجعلهم يسمعون أي يعملون بما يدخل أصماخهم من الدعوة إلى الخير. فالكلام استدلال بانتفاء فرد من أفراد جنس الخير. وذلك هو فرد الانتفاع بالمسموع الحق ، على انتفاء جنس الخير من نفوسهم ، فمناط الاستدلال هو إجراء أمرهم على المألوف من حكمة الله في خلق أجناس الصفات وأشخاصها ، وإن كان ذلك لا يخرج عن قدرة الله تعالى لو شاء أن يجري أمرهم على غير المعتاد من أمثالهم.
وبهذا تعلم أن كل من لم يؤمن من المشركين حتى مات على الشرك فقد انتفت مخالطة الخير نفسه ، وكل من آمن منهم فهو في وقت عناده وتصميمه على العناد قد انتفت مخالطة الخير نفسه ولكن الخير يلمع عليه ، حتى إذا استولى نور الخير في نفسه على ظلمة كفره ألقى الله في نفسه الخير فأصبح قابلا للإرشاد والهدى ، فحق عليه أنه قد علم الله فيه خيرا حينئذ فأسمعه. فمثل ذلك مثل أبي سفيان ، إذ كان فيما قبل ليلة فتح مكة قائد أهل الشرك فلما اقترب من جيش الفتح وأدخل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وقال له أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلّا الله ، قال أبو سفيان : «لقد علمت أن لو كان معه إله آخر لقد أغنى عني شيئا» ثم قال له الرسول عليه الصلاة والسلام : «وأن تشهد أني رسول الله» فقال : أمّا هذه ففي القلب منها شيء» فلم يكمل حينئذ إسماع الله إياه ، ثم تمّ في نفسه الخير فلم يلبث أن