الآية السالفة (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) [التوبة : ٥٥] بذكر لام التعليل وحذف (أن) بعدها وقد اجتمع الاستعمالان في قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) ـ إلى قوله ـ (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) في سورة النساء [٢٦ ، ٢٧]. وحذف حرف الجرّ مع (أن) كثير. وهنالك قدرت أن بعد اللام وتقدير (أن) بعد اللام كثير. ومن محاسن التأكيد الاختلاف في اللفظ وهو تفنّن على أنّ تلك اللام ونحوها قد اختلف فيها فقيل هي زائدة ، وقيل : تفيد التعليل. وسمّاها بعض أهل اللغة (لام أن) ، وتقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) في سورة النساء [٢٦].
رابعها : أنّه جاء في هذه الآية (أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا) وجاء في الآية السالفة (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [التوبة : ٥٥] ونكتة ذلك أنّ الآية السالفة ذكرت حالة أموالهم في حياتهم فلم تكن حاجة إلى ذكر الحياة. وهنا ذكرت حالة أموالهم بعد مماتهم لقوله : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) [التوبة : ٨٤] فقد صاروا إلى حياة أخرى وانقطعت حياتهم الدنيا وأصبحت حديثا.
وبقية تفسير هذه الآية كتفسير سالفتها.
(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦))
هذا عطف غرض على غرض قصد به الانتقال إلى تقسيم فرق المتخلّفين عن الجهاد من المنافقين وغيرهم وأنواع معاذيرهم ومراتبها في القبول. دعا إليه الإغلاظ في تقريع المتخلّفين عن الجهاد نفاقا وتخذيلا للمسلمين ، ابتداء من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) [التوبة : ٣٨] ثم قوله : (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً) [التوبة : ٤٢] وكلّ ذلك مقصود به المنافقون.
ولأجل كون هذه الآية غرضا جديدا ابتدأت بذكر نزول سورة داعية إلى الإيمان والجهاد. والمراد بها هذه السورة ، أي سورة براءة ، وإطلاق اسم السورة عليها في أثنائها قبل إكمالها مجاز متّسع فيه كإطلاق الكتاب على القرآن في أثناء نزوله في نحو قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢] وقوله : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) [الأنعام : ٩٢] فهذا الوصف وصف مقدّر شبيه بالحال المقدّرة.
وابتدأ بذكر المتخلّفين من المنافقين بقوله : (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ).