للوفاء بوعده لكان يتجه من السؤال على الوعد بذلك وعلى الوفاء به ما اتجه على وقوع الاستغفار له. فالتفسير الصحيح أن أبا إبراهيم وعد إبراهيم بالإيمان ، فكان بمنزلة المؤلفة قلوبهم بالاستغفار له لأنه ظنه مترددا في عبادة الأصنام لما قال له : (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [مريم : ٤٦] فسأل الله له المغفرة لعله يرفض عبادة الأصنام كما يدل عليه قوله : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ). وطريق تبين أنه عدو لله إما الوحي بأن نهاه الله عن الاستغفار له ، وإما بعد أن مات على الشرك.
والتبرؤ : تفعل من برىء من كذا إذا تنزه عنه ، فالتبرؤ مبالغة في البراءة.
وجملة : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) استئناف ثناء على إبراهيم. و (لَأَوَّاهٌ) فسّر بمعان ترجع إلى الشفقة إما على النفس فتفيد الضراعة إلى الله والاستغفار ، وإما على الناس فتفيد الرحمة بهم والدعاء لهم.
ولفظ (لَأَوَّاهٌ) مثال مبالغة : الذي يكثر قول أوّه بلغاته الثلاث عشرة التي عدها في «القاموس» ، وأشهرها أوّه بفتح الهمزة وواو مفتوحة مشددة وهاء ساكنة. قال المرادي في «شرح التسهيل» : وهذه أشهر لغاتها. وهي اسم فعل مضارع بمعنى أتوجع لإنشاء التوجع ، لكن الوصف ب (لَأَوَّاهٌ) كناية عن الرأفة ورقة القلب والتضرع حين يوصف به من ليس به وجع. والفعل المشتق منه (أواه) حقه أن يكون ثلاثيا لأن أمثلة المبالغة تصاغ من الثلاثي. وقد اختلف في استعمال فعل ثلاثي له ، فأثبته قطرب وأنكره عليه غيره من النحاة.
واتباع (لأواه) بوصف (حليم) هنا وفي آيات كثيرة قرينة على الكناية وإيذان بمثار التأوه عنده.
والحليم : صاحب الحلم. والحلم ـ بكسر الحاء ـ : صفة في النفس وهي رجاحة العقل وثباتة ورصانة وتباعد عن العدوان. فهو صفة تقتضي هذه الأمور ، ويجمعها عدم القسوة. ولا تنافي الانتصار للحق لكن بدون تجاوز للقدر المشروع في الشرائع أو عند ذوي العقول.
قال :
حليم إذا ما الحلم زين أهله |
|
مع الحلم في عين العدو مهيب |
(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ