كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا) [التوبة : ١٢٠] إلخ. ومعنى (أَنْ يَتَخَلَّفُوا) هو أن لا ينفروا ، فناسب أن يذكر بعده (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً).
والمراد بالنفير في قوله : (لِيَنْفِرُوا) وقوله : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) الخروج إلى الغزو المأخوذ من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) [التوبة : ٣٨] أي وما كان المؤمنون لينفروا ذلك النفر كلّهم.
فضمير (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) يجوز أن يعود على قوله : (الْمُؤْمِنُونَ) ، أي ليتفقه المؤمنون. والمراد ليتفقه منهم طائفة وهي الطائفة التي لم تنفر ، كما اقتضاه قوله : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) ، فهو عام مراد به الخصوص.
ويجوز أن يعود الضمير إلى مفهوم من الكلام من قوله : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) لأن مفهومه وبقيت طائفة ليتفقهوا في الدين ، فأعيد الضمير على (طائفة) بصيغة الجمع نظرا إلى معنى طائفة ، كقوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩] على تأويل اقتتل جمعهم.
ويجوز أن يكون المراد من النفر في قوله : (لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) نفرا آخر غير النفر في سبيل الله ، وهو النفر للتفقه في الدين ، وتكون إعادة فعل (ينفروا) و (نفر) من الاستخدام بقرينة قوله : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) فيكون الضمير في قوله : (لِيَتَفَقَّهُوا) عائدا إلى (طائِفَةٌ) ويكون قوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) تمهيدا لقوله : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ).
وقد نقل عن أئمة المفسرين وأسباب النزول أقوال تجري على الاحتمالين. والاعتماد في مراجع الضمائر على قرائن الكلام على عادة العرب في الإيجاز والاعتماد على فطنة السامع فإنهم أمة فطنة.
والإتيان بصيغة لام الجحود تأكيد للنفي ، وهو خبر مستعمل في النهي فتأكيده يفيد تأكيد النهي ، أي كونه نهيا جازما يقتضي التحريم. وذلك أنه كما كان النفر للغزو واجبا لأن في تركه إضاعة مصلحة الأمة كذلك كان تركه من طائفة من المسلمين واجبا لأن في تمحض جميع المسلمين للغزو إضاعة مصلحة للأمة أيضا ، فأفاد مجموع الكلامين أن النفر للغزو واجب على الكفاية أي على طائفة كافية لتحصيل المقصد الشرعي منه ، وأن تركه متعين على طائفة كافية منهم لتحصيل المقصد الشرعي مما أمروا بالاشتغال به من العلم