عهدهم ، ولا ظاهروا عدوّا على المسلمين ، إلى وقت نزول براءة. على أنّ معاهدتهم عند المسجد الحرام أبعد عن مظنّة النكث لأنّ المعاهدة عنده أوقع في نفوس المشركين من الحلف المجرّد ، كما قال تعالى : (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) [التوبة : ١٢].
وليس المراد كلّ من عاهد عند المسجد الحرام كما قد يتوهّمه المتوهّم ، لأنّ النبيصلىاللهعليهوسلم لم يكن مأذونا بأن يعاهد فريقا آخر منهم.
وقوله : (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) تفريع على الاستثناء. فالتقدير : إلّا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فاستقيموا لهم ما استقاموا لكم ، أي ما داموا مستقيمين لكم. والظاهر أنّ استثناء هؤلاء ؛ لأنّ لعهدهم حرمة زائدة لوقوعه عند المسجد الحرام حول الكعبة.
و (فَمَا) ظرفية مضمّنة معنى الشرط ، والفاء الداخلة على فاء التفريع. والفاء الواقعة في قوله : (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) فاء جواب الشرط ، وأصل ذلك أنّ الظرف والمجرور إذا قدّم على متعلّقه قد يشرب معنى الشرط فتدخل الفاء في جوابه ، ومنه قوله تعالى : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) [المطففين : ٢٦] لوجوب جعل الفاء غير تفريعية ، لأنّه قد سبقها العطف بالواو ، وقول النبي صلىاللهعليهوسلم : «كما تكونوا يولّ عليكم» بجزم الفعلين ، وقوله لمن سأله أن يجاهد وسأله الرسول «ألك أبوان» قال : نعم قال : «ففيهما فجاهد» في روايته بفاءين.
والاستقامة : حقيقتها عدم الاعوجاج ، والسين والتاء للمبالغة مثل استجاب واستحبّ ، وإذا قام الشيء انطلقت قامته ولم يكن فيه اعوجاج ، وهي هنا مستعارة لحسن المعاملة وترك القتال ، لأنّ سوء المعاملة يطلق عليه الالتواء والاعوجاج ، فكذلك يطلق على ضدّه الاستقامة.
وجملة : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) تعليل للأمر بالاستقامة. وموقع (إِنَ) أولها ، للاهتمام وهو مؤذن بالتعليل لأن (إِنَ) في مثل هذا تغني غناء فاء ، وقد أنبأ ذلك ، التعليل ، أنّ الاستقامة لهم من التقوى وإلّا لم تكن مناسبة للإخبار بأنّ الله يحبّ المتّقين. عقب الأمر بالاستقامة لهم ، وهذا من الإيجاز. ولأنّ في الاستقامة لهم حفظا للعهد الذي هو من قبيل اليمين.
(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨))