وهذا أحسن من قول المفسّرين أنّ معنى (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) لم تهتدوا إلى موضع من الأرض تفرّون إليه فكأنّ الأرض ضاقت عليكم ، ومنهم من أجمل فقال : أي لشدّة الحال وصعوبتها.
وموقع (ثُمَ) في قوله : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) موقع التراخي الرتبي ، أي : وأعظم ممّا نالكم من الشرّ أن وليتم مدبرين.
والتولّي : الرجوع ، و (مُدْبِرِينَ) حال : إمّا مؤكّدة لمعنى (وَلَّيْتُمْ) أو أريد بها إدبار أخص من التولّي ، لأنّ التولّي مطلق يكون للهروب ، ويكون للفرّ في حيل الحروب ، والإدبار شائع في الفرار الذي لم يقصد به حيلة فيكون الفرق بينه وبين التولّي اصطلاحا حربيا.
(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦))
عطف على قوله : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) [التوبة : ٢٥].
و (ثُمَ) دالّة على التراخي الرتبي فإنّ نزول السكينة ونزول الملائكة أعظم من النصر الأول يوم حنين ، على أنّ التراخي الزمني مراد ؛ تنزيلا لعظم الشدة وهول المصيبة منزلة طول مدّتها ، فإن أزمان الشدّة تخيّل طويلة وإن قصرت.
والسكينة : الثبات واطمئنان النفس وقد تقدّم بيانها عند قوله تعالى : (أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) في سورة البقرة [٢٤٨] ، وتعليقها بإنزال الله ، وإضافتها إلى ضميره : تنويه بشأنها وبركتها ، وإشارة إلى أنّها سكينة خارقة للعادة ليست لها أسباب ومقدّمات ظاهرة ، وإنّما حصلت بمحض تقدير الله وتكوينه أنفا كرامة لنبيه صلىاللهعليهوسلم وإجابة لندائه الناس ، ولذلك قدّم ذكر الرسول قبل ذكر المؤمنين.
وإعادة حرف (عَلى) بعد حرف العطف : تنبيه على تجديد تعليق الفعل بالمجرور الثاني للإيماء إلى التفاوت بين السكينتين : فسكينة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ سكينة اطمئنان على المسلمين الذين معه وثقة بالنصر ، وسكينة المؤمنين سكينة ثبات وشجاعة بعد الجزع والخوف.
والجنود جمع جند. والجند اسم جمع لا واحد له من لفظه ، وهو الجماعة المهيّئة