وجعلوها حسابا لتوقيت الأعمال التي لا يصلح لها إلّا بعض الفصول ، مثل الحرث والحصاد وأحوال الماشية ، وقد كان الحساب الشمسي معروفا عند القبط والكلدانيين ، وجاءت التوراة بتعيين الأوقات القمرية للأشهر ، وتعيين الشمسية للأعياد ، ومعلوم أنّ الأعياد في الدرجة الثانية من أحوال البشر لأنّها راجعة إلى التحسين ، فأمّا ضبط الأشهر. فيرجع إلى الحاجي. فألهم الله البشر ، فيما ألهمهم من تأسيس أصول حضارتهم ، أن اتّخذوا نظاما لتوقيت أعمالهم المحتاجة للتوقيت ، وأن جعلوه مستندا إلى مشاهدات بيّنة واضحة لسائر الناس ، لا تنحجب عنهم إلا قليلا في قليل ، ثمّ لا تلبث أن تلوح لهم واضحة باهرة ، وألهمهم أن اهتدوا إلى ظواهر ممّا خلق الله له نظاما مطردا. وذلك كواكب السماء ومنازلها ، كما قال في بيان حكمة ذلك (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) [يونس : ٥] ، وإن جعلوا توقيتهم اليومي مستندا إلى ظهور نور الشمس ومغيبه عنهم ، لأنّهم وجدوه على نظام لا يتغيّر ، ولاشتراك الناس في مشاهدة ذلك ، وبذلك تنظم اليوم والليلة ، وجعلوا توقيتهم الشهري بابتداء ظهور أول أجزاء القمر وهو المسمّى هلالا إلى انتهاء محاقه فإذا عاد إلى مثل الظهور الأول فذلك ابتداء شهر آخر ، وجعلوا مراتب أعداد أجزاء المدّة المسمّاة بالشهر مرتّبة بتزايد ضوء النصف المضيء من القمر كلّ ليلة ، وبإعانة منازل ظهور القمر كلّ ليلة حذو شكل من النجوم سمّوه بالمنازل. وقد وجدوا ذلك على نظام مطّرد ، ثم ألهمهم فرقبوا المدّة التي عاد فيها الثمر أو الكلأ الذي ابتدءوا في مثله العدّ وهي أوقات الفصول الأربعة ، فوجدوها قد احتوت على اثني عشر شهرا فسمّوا تلك المدّة عاما ، فكانت الأشهر لذلك اثني عشر شهرا ، لأنّ ما زاد على ذلك يعود إلى مثل الوقت الذي ابتدءوا فيه الحساب أوّل مرّة ، ودعوها بأسماء لتمييز بعضها عن بعض دفعا للغلط ، وجعلوا لابتداء السنين بالحوادث على حسب اشتهارها عندهم ، إن أرادوا ذلك وذلك واسع عليهم ، فلمّا أراد الله أن يجعل للناس عبادات ومواسم وأعيادا دورية تكون مرّة في كلّ سنة ، أمرهم أن يجعلوا العبادة في الوقت المماثل لوقت أختها ففرض على إبراهيم وبنيه حجّ البيت كلّ سنة في الشهر الثاني عشر ، وجعل لهم زمنا محترما بينهم يأمنون فيه على نفوسهم وأموالهم ويستطيعون فيه السفر البعيد وهي الأشهر الحرم ، فلمّا حصل ذلك كله بمجموع تكوين الله تعالى للكواكب ، وإيداعه الإلهام بالتفطّن لحكمتها ، والتمكّن من ضبط مطرد أحوالها ، وتعيينه ما عين من العبادات والأعمال بمواقيتها ، كان ذلك كلّه مرادا عنده فلذلك قال : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ