المحققين من جعله قيدا ل (هُدىً وَرَحْمَةٌ) ناظرا إلى قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] فإنه لم يجعله هدى لغير المتقين وهم المؤمنون.
والوجه أن كونه موعظة وصف ذاتي له ، لأن الموعظة هي الكلام المحذّر من الضر ولهذا عقبت بقوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) فكانت عامة لمن خوطب ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ). وأما كونه شفاء فهو في ذاته صالح للشفاء لكن الشفاء بالدواء لا يحصل إلا لمن استعمله.
وأما كونه هدى ورحمة فإن تمام وصف القرآن بهما يكون بالنسبة لمن حصلت له حقيقتهما ، وأما لمن لم تحصل له آثارهما ، فوصف القرآن بهما بمعنى صلاحيته لذلك ، وهو الوصف بالقوة في اصطلاح أهل المنطق. وقد وقع التصريح في الآية الأخرى بأنه (شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء : ٨٢] ، وصرح في آية البقرة [٢] بأنه (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ، فالأظهر أن قيد (لِلْمُؤْمِنِينَ) راجع إلى (هُدىً وَرَحْمَةٌ) معا إلى قاعدة القيد الوارد بعد مفردات ، وأما رجوعه إلى (شِفاءٌ) فمحتمل ، لأن وصف (شِفاءٌ) قد عقب بقيد لِما فِي الصُّدُورِ) فانقطع عن الوصفين اللذين بعده ، ولأن تعريف (الصُّدُورِ) باللام يقتضي العموم ، فليحمل الشفاء على معنى الدواء الذي هو صالح للشفاء للذي يتناوله. وهو إطلاق كثير. وصدّر به في «اللسان» و«القاموس» ، وجعلوا منه قوله تعالى في شأن العسل (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) [النحل : ٦٩].
وأما تعليق فعل المجيء بضمير الناس في قوله : (قَدْ جاءَتْكُمْ) فباعتبار كونهم المقصود بإنزال القرآن في الجملة. ثم وقع التفصيل بالنسبة لما اختلفت فيه أحوال تلقيهم وانتفاعهم ، كما دل عليه قوله بعده : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس : ٥٨] أي المؤمنون. وعبر عن الهدى بالفضل في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [النساء : ١٧٤ ، ١٧٥] فعمم في مجيء البرهان وإنزال النور جميع الناس ، وخصص في الرحمة والفضل والهداية المؤمنين ، وهذا منتهى البلاغة وصحة التقسيم.
(قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨))
يتفرع على كون القرآن هدى ورحمة للمؤمنين تنبيههم إلى أن ذلك فضل من الله عليهم ورحمة بهم يحق لهم أن يفرحوا بهما ، وأن يقدروا قدر نعمتها ، وأن يعلموا أنها