والعلو : مستعار للغلبة والاستبداد ، كقوله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) وقوله : (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [النمل : ٣١].
والإسراف : تجاوز حد الاعتدال المعروف في فعل ، فهو تجاوز مذموم ، وأشهر موارده في الإنفاق ، ولم يذكر متعلّق الإفراط فتعيّن أن يكون إسرافا فيما عرف به ملوك زمانهم من الصفات المكروهة عند الناس الملازمة للملوك في العادة.
وقوله : (لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) أبلغ في وصفه بالإسراف من أن يقال : وإنه لمسرف لما تقدم عند قوله تعالى : (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) في الأنعام [٥٦].
[٨٤ ـ ٨٦] (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦))
عطف بقية القصة على أولها فهو عطف على جملة (وَقالَ فِرْعَوْنُ)[يونس : ٧٩] ، وهذا خطاب موسى لجميع قومه وهم بنو إسرائيل الذين بمصر ، وهو يدل على أنه خاطبهم بذلك بعد أن دعاهم وآمنوا به كما يؤذن به قوله : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ). والغرض منه تثبيت الذين آمنوا به في حضرة فرعون على توكلهم ، وأمر من عداهم الذين خاف ذريتهم أن يؤنبوهم على إظهار الإيمان بأن لا يجبّنوا أبناءهم ، وأن لا يخشوا فرعون ، ولذلك قال : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا).
والمعنى : إن كنتم آمنتم بالله حقا كما أظهرته أقوالكم فعليه اعتمدوا في نصركم ودفع الضر عنكم ولا تعتمدوا في ذلك على أنفسكم بمصانعة فرعون ولا على فرعون بإظهار الولاء له.
وأراد إثارة صدق إيمانهم وإلهاب قلوبهم بجعل إيمانهم معلقا بالشرط محتمل الوقوع ، حيث تخوفوا من فرعون أن يفتنهم فأرادوا أن يكتموا إيمانهم تقية من فرعون وملئهم ، وإنما جعل عدم اكتراثهم ببطش فرعون علامة على إيمانهم لأن الدعوة في أول أمرها لا تتقوم إلا بإظهار متبعيها جماعتهم ، فلا تغتفر فيها التقية حينئذ. وبذلك عمل المسلمون الأولون مثل بلال ، وعمار ، وأبي بكر ، فأعلنوا الإيمان وتحملوا الأذى ، وإنما سوغت التقية للآحاد من المؤمنين بعد تقوم جامعة الإيمان فذلك محل قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦].