لما استبطئوا رجوعه ورجوع جيشه ، فرفعوه إلى المدينة وكان عبرة لهم.
(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣))
عطف على الجمل الماضية فإن جميع تلك الجمل مقصود منها موعظة الكفار من العرب بأحوال من سبقهم من الأمم في مشابهة كفرهم بكفرهم وبما حل بهم من أنواع العذاب جزاء كفرهم كما قال تعالى : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) [القمر : ٤٣].
فلما ضرب الله مثل السوء أتبعه بمثل الصلاح بحال الذين صدقوا الرسول واتبعوه ، وكيف كانت عاقبتهم الحسنى ليظهر الفرق بين مصيري فريقين جاءهم رسول فآمن به فريق وكفر به فريق ، ليكون ذلك ترغيبا للمشركين في الإيمان ، وبشارة للمؤمنين من أهل مكة.
فالمراد ببني إسرائيل القوم المتحدث عنهم بقوله : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) [يونس : ٩١] الآية وترتيب الإخبار يقتضي أن الله بوأهم مبوّأ صدق عقب مجاوزتهم البحر غرق فرعون وجنوده ، فإنهم دخلوا بعد ذلك صحراء التيه وأمنوا على أنفسهم وأقبلوا على تزكية نفوسهم وإصلاح شئونهم ، ورزقوا المنّ والسّلوى ، وأعطوا النصر على الأمم التي تعرضت لهم تحاول منعهم من امتلاك الأرض الطيبة.
فما زالوا يتدرّجون في مدارج الخير والإنعام فذلك مبوّأ الصدق.
والرزق : من الطيبات.
فمعنى (فَمَا اخْتَلَفُوا) أولئك ولا من خلفهم من أبنائهم وأخلافهم.
والتبوّؤ تقدم آنفا ، والمبوّأ : مكان البوء ، أي الرجوع ، والمراد المسكن كما تقدم ، وإضافته إلى (صدق) من إضافة الموصوف إلى الصفة ، ويجوز أن يكون المبوّأ مصدرا ميميا. والصدق هنا بمعنى الخالص في نوعه. وتقدم عند قوله تعالى : (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [يونس : ٢]. والمراد بمبوإ الصدق ما فتح الله عليهم من بلاد فلسطين وما فيها من خصب وثراء قال تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا)[الأعراف : ١٣٧].
وتفريع قوله : (فَمَا اخْتَلَفُوا) على (بَوَّأْنا) وما عطف عليه تفريع ثناء عليهم بأنهم