حساب السنين قد ذكر بخصوصه. ولما اقتصر في هذه الآية على معرفة عدد السنين تعين أن المراد بالحساب حساب القمر ، لأن السنة الشرعية قمرية ، ولأن ضمير (قَدَّرَهُ) عائد على (الْقَمَرَ) وإن كان للشمس حساب آخر وهو حساب الفصول. وقد تقدم في قوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) [الأنعام : ٩٦].
فمن معرفة الليالي تعرف الأشهر ، ومن معرفة الأشهر تعرف السنة. وفي ذلك رفق بالناس في ضبط أمورهم وأسفارهم ومعاملات أموالهم وهو أصل الحضارة. وفي هذه الآية إشارة إلى أن معرفة ضبط التاريخ نعمة أنعم الله بها على البشر.
وجملة (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) مستأنفة كالنتيجة للجملة السابقة كلها لأنه لما أخبر بأنه الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وذكر حكمة بعض ذلك أفضى إلى الغرض من ذكره وهو التنبيه إلى ما فيها من الحكمة ليستدل بذلك على أن خالقهما فاعل مختار حكيم ليستفيق المشركون من غفلتهم عن تلك الحكم ، كما قال تعالى في هذه السورة [٧] (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ).
والباء للملابسة. و (الحق) هنا مقابل للباطل. فهو بمعنى الحكمة والفائدة ، لأن الباطل من إطلاقاتها أن يطلق على البعث وانتفاء الحكمة فكذلك الحق يطلق على مقابل ذلك. وفي هذا رد على المشركين الذين لم يهتدوا لما في ذلك من الحكمة الدالة على الوحدانية وأن الخالق لها ليس آلهتهم. قال تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [ص : ٢٧]. وقال : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الدخان : ٣٨ ـ ٣٩].
ولذلك أعقب هذا التنبيه بجملة نفصل (الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ، فهذه الجملة مستأنفة ابتدائية مسوقة للامتنان بالنعمة ، ولتسجيل المؤاخذة على الذين لم يهتدوا بهذه الدلائل إلى ما تحتوي عليه من البيان. ويجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من اسم الجلالة في قوله : (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ). فعلى قراءة نفصل بالنون وهي لنافع والجمهور ورواية عن ابن كثير ففي ضمير صاحب الحال التفات ، وعلى قراءة (يُفَصِّلُ) بالتحية وهي لابن كثير في المشهور عنه وأبي عمرو وابن عامر ويعقوب أمرها ظاهر.
والتفصيل : التبيين ، لأن التبيين يأتي على الفصول الشيء كلها. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) في سورة الأنعام [٥٥]. والإتيان بالفعل المضارع لإفادة التكرار.