وقولهم : (فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) خبر مستعمل في التذمر والتضجير والتأييس من الاقتناع ، أجابهم بالمبادرة لبيان العذاب لأن ذلك أدخل في الموعظة فبادر به ثم عاد إلى بيان مجادلته.
والإتيان بالشيء : إحضاره. وأرادوا به تعجيله وعدم إنظاره.
و (بِما تَعِدُنا) مصداقه (عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) [هود : ٢٦].
والقصر في قوله : (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ) قصر قلب بناء على ظاهر طلبهم ، حملا لكلامهم على ظاهره على طريقة مجاراة الخصم في المناظرة ، وإلّا فإنهم جازمون بتعذّر أن يأتيهم بما وعدهم لأنهم يحسبونه كاذبا وهم جازمون بأنّ الله لم يتوعدهم ، ولعلّهم كانوا لا يؤمنون بوجود الله. وقوله : (إِنْ شاءَ) احتراس راجع إلى حمل العذاب على عذاب الدنيا.
ومعنى (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) ما أنتم بناجين وفالتين من الوعيد ، يريد أن العذاب واقع لا محالة. ولعل نوحا ـ عليهالسلام ـ لم يكن له وحي من الله بأن يحلّ بهم عذاب الدنيا ، فلذلك فوّضه إلى المشيئة ؛ أو لعلّه كان يوقن بنزوله بهم فيكون التعليق ب (إِنْ شاءَ) منظورا فيه إلى كون العذاب معجلا أو مؤخرا.
(وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤))
عطف على وعظهم بحلول العذاب وتوقعه بيان حال مجادلته إيّاهم التي امتعضوا منها بأنها مجادلة لنفعهم وصلاحهم ، وفي ذلك تعريض بتحميقهم وتسفيه آرائهم حيث كرهوا ما هو نفع لهم.
والنصح : قول أو عمل يريد صاحبه صلاح المعمول لأجله. وأكثر ما يطلق على الأقوال النافعة المنقذة من الأضرار. ويكون بالعمل كقوله تعالى : (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) في سورة التوبة [٩١]. وفي الحديث : «الدين النصيحة لله ولرسوله» أي الإخلاص في العمل لهما لأنّ الله لا ينبّأ بشيء لا يعلمه. وقد تقدم في قوله تعالى : (وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) في سورة الأعراف [٧٩]. فالمراد بالنصح هنا هو ما سمّاه قومه بالجدال ، أي هو أولى بأن يسمّى نصحا ، لأن الجدال يكون للخير