ثم إن كان قول نوح ـ عليهالسلام ـ (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) إلى آخره تعريضا بالمسئول كان النّهي في قوله : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) نهيا عن الإلحاح أو العود إلى سؤاله ؛ وإن كان قول نوح ـ عليهالسلام ـ مجرد تمهيد للسؤال لاختبار حال إقبال الله على سؤاله كان قوله تعالى : (فَلا تَسْئَلْنِ) نهيا عن الإفضاء بالسؤال الذي مهّد له بكلامه. والمقصود من النهي تنزيهه عن تعريض سؤاله للردّ.
وعلى كل الوجوه فقوله : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) موعظة على ترك التثبّت قبل الإقدام.
والجهل فيه ضد العلم ، وهو المناسب لمقابلته بقوله : (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).
فأجاب نوح ـ عليهالسلام ـ كلام ربّه بما يدل على التنصّل ممّا سأل فاستعاذ أن يسأل ما ليس له به علم ، فإن كان نوح ـ عليهالسلام ـ أراد بكلامه الأول التعريض بالسؤال فهو أمر قد وقع فالاستعاذة تتعلق بتبعة ذلك أو بالعود إلى مثله في المستقبل ؛ وإن كان إنّما أراد التمهيد للسؤال فالاستعاذة ظاهرة ، أي الانكفاف عن الإفضاء بالسؤال.
وقوله : (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) طلب المغفرة ابتداء لأن التخلية مقدمة على التحلية ثم أعقبها بطلب الرحمة لأنّه إذا كان بمحل الرضى من الله كان أهلا للرحمة.
وقد سلك المفسرون في تفسيرهم هذه الآيات مسلك كون سؤال نوح ـ عليهالسلام ـ سؤالا لإنجاء ابنه من الغرق فاعترضتهم سبل وعرة متنائية ، ولقوا عناء في الاتصال بينها ، والآية بمعزل عنها ، ولعلنا سلكنا الجادة في تفسيرها.
(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨))
فصلت الجملة ولم تعطف لوقوعها في سياق المحاورة بين نوح ـ عليهالسلام ـ وربّه ، فإنّ نوحا ـ عليهالسلام ـ لما أجاب بقوله : (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) [هود : ٤٧] إلى آخره خاطبه ربه إتماما للمحاورة بما يسكّن جأشه.
وكان مقتضى الظاهر أن يقول : قال يا نوح اهبط ، ولكنه عدل عنه إلى بناء الفعل للنائب ليجيء على وتيرة حكاية أجزاء القصة المتقدمة من قوله : (وَقِيلَ يا أَرْضُ