فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) في الأنعام [١٧].
وذكر (مِنَّا) مع (يَمَسُّهُمْ) لمقابلة قوله في ضدّه (بِسَلامٍ مِنَّا) ليعلموا أنّ ما يصيب الأمة من الأحوال الزائدة على المعتاد في الخير والشر هو إعلام من الله بالرضى أو الغضب لئلا يحسبوا ذلك من سنة ترتب المسبّبات العادية على أسبابها ، إذ من حق الناس أن يتبصروا في الحوادث ويتوسّموا في جريان أحوالهم على مراد الله تعالى منهم ويعلموا أن الله يخاطبهم بدلالة الكائنات عند انقطاع خطابه إياهم على ألسنة الرسل ، فإنّ الرسل يبينون لهم طرق الدلالة ويكلون إليهم النظر في وضع المدلولات عند دلالاتها. ومثاله ما هنا فقد بيّن لهم على لسان نوح ـ عليهالسلام ـ أنّه يمتع أمما ثم يمسهم عذاب أليم بما يصنعون.
(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩))
استئناف أريد منه الامتنان على النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والموعظة والتسلية.
فالامتنان من قوله : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها).
والموعظة من قوله : (فَاصْبِرْ) إلخ.
والتّسلية من قوله : (إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ).
والإشارة ب (تِلْكَ) إلى ما تقدم من خبر نوح ـ عليهالسلام ـ ، وتأنيث اسم الإشارة بتأويل أن المشار إليه القصة.
والأنباء : جمع نبأ ، وهو الخبر. وأنباء الغيب الأخبار المغيبة عن الناس أو عن فريق منهم. فهذه الأنباء مغيبة بالنسبة إلى العرب كلهم لعدم علمهم بأكثر من مجملاتها ، وهي أنه قد كان في الزمن الغابر نبيء يقال له : نوح ـ عليهالسلام ـ أصاب قومه طوفان ، وما عدا ذلك فهو غيب كما أشار إليه قوله : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) ، فإنهم لم ينكروا ذلك ولم يدّعوا علمه. على أن فيها ما هو غيب بالنسبة إلى جميع الأمم مثل قصة ابن نوح الرابع وعصيانه أباه وإصابته بالغرق ، ومثل كلام الرّب مع نوح ـ عليهالسلام ـ عند هبوطه من السفينة ، ومثل سخرية قومه به وهو يصنع الفلك ، وما دار بين نوح ـ عليهالسلام ـ وقومه من المحاورة ، فإن ذلك كله مما لم يذكر في كتب أهل الكتاب.