فكانت لهم منافع من الأرض تناسب نعمة إنشائهم من الأرض فلأجل منافعهم في الأرض قيّدت نعمة الخلق بأنّها من الأرض التي أنشئوا منها ، ولذلك عطف عليه (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها).
والاستعمار : الإعمار ، أي جعلكم عامرينها ، فالسّين والتاء للمبالغة كالتي في استبقى واستفاق. ومعنى الإعمار أنهم جعلوا الأرض عامرة بالبناء والغرس والزرع لأنّ ذلك يعدّ تعميرا للأرض حتى سمي الحرث عمارة لأنّ المقصود منه عمر الأرض.
وفرع على التذكير بهذه النعم أمرهم باستغفاره والتّوبة إليه ، أي طلب مغفرة أجرامهم ، والإقلاع عمّا لا يرضاه من الشرك والفساد. ومن تفنّن الأسلوب أن جعلت هذه النعم علّة لأمرهم بعبادة الله وحده بطريق جملة التّعليل ، وجعلت علّة أيضا للأمر بالاستغفار والتّوبة بطريق التّفريع.
وعطف الأمر بالتّوبة بحرف التّراخي للوجه المتقدّم في قوله : (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) [هود : ٥١] في الآية المتقدمة.
وجملة (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) استئناف بيانيّ كأنهم استعظموا أن يكون جرمهم ممّا يقبل الاستغفار عنه ، فأجيبوا بأنّ الله قريب مجيب ، وبذلك ظهر أنّ الجملة ليست بتعليل. وحرف (إِنَ) فيها للتّأكيد تنزيلا لهم في تعظيم جرمهم منزلة من يشكّ في قبول استغفاره.
والقرب : هنا مستعار للرأفة والإكرام ، لأنّ البعد يستعار للجفاء والإعراض. قال جبير بن الأضبط :
تباعد عنّي مطحل إذ دعوته |
|
أمين فزاد الله ما بيننا بعدا |
فكذلك يستعار ضدّه لضدّه ، وتقدّم في قوله : (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) في سورة البقرة [١٨٦]. والمجيب هنا : مجيب الدّعاء ، وهو الاستغفار. وإجابة الدّعاء : إعطاء السائل مسئوله.
(قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢))
هذا جوابهم عن دعوته البليغة الوجيزة الملأى إرشادا وهديا. وهو جواب ملئ بالضلال والمكابرة وضعف الحجة.