والأولى حمله عليه هنا ليكون أدخل في تعليل النهي ، أي أنكم في غنى عن هذا التطفيف بما أوتيتم من النعمة والثروة. وهذا التعليل يقتضي قبح ما يرتكبونه من التطفيف في نظر أهل المروءة ويقطع منهم العذر في ارتكابه. وهذا حثّ على وسيلة بقاء النعمة.
ثم ارتقى في تعليل النهي بأنه يخاف عليهم عذابا يحل بهم إمّا يوم القيامة وإما في الدنيا. ولصلوحيته للأمرين أجمله بقوله : (عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ). وهذا تحذير من عواقب كفران النعمة وعصيان واهبها.
و (مُحِيطٍ) وصف ل (يَوْمٍ) على وجه المجاز العقلي ، أي محيط عذابه ، والقرينة هي إضافة العذاب إليه.
وإعادة النداء في جملة (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ) لزيادة الاهتمام بالجملة والتنبيه لمضمونها ، وهو الأمر بإيفاء المكيال والميزان. وهذا الأمر تأكيد للنّهي عن نقصهما. والشيء يؤكد بنفي ضده ، كقوله تعالى : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) [طه : ٧٩]. لزيادة التّرغيب في الإيفاء بطلب حصوله بعد النهي عن ضده.
والباء في قوله (بِالْقِسْطِ) للملابسة. وهو متعلق ب (أَوْفُوا) فيفيد أن الإيفاء يلابسه القسط ، أي العدل تعليلا للأمر به ، لأنّ العدل معروف حسن ، وتنبيها على أنّ ضده ظلم وجور وهو قبيح منكر.
والقسط تقدم في قوله تعالى : (قائِماً بِالْقِسْطِ) في آل عمران [١٨].
والبخس : النقص. وتقدم في قصته في سورة الأعراف مفسرا. وذكر ذلك بعد النهي عن نقص المكيال والميزان تذييل بالتعميم بعد تخصيص. لأنّ التطفيف من بخس الناس في أشيائهم ، وتعدية (تَبْخَسُوا) إلى مفعولين باعتباره ضد أعطى فهو من باب كسا.
والعثي ـ بالياء ـ من باب سعى ورمى ورضي ، وبالواو كدعا ، هو : الفساد. ولذلك فقوله (مُفْسِدِينَ) حال مؤكدة لعاملها مثل التوكيد اللفظي مبالغة في النهي عن الفساد.
والمراد : النهي عن الفساد كله ، كما يدلّ عليه قوله : (فِي الْأَرْضِ) المقصود منه تعميم أماكن الفساد.
والفساد تقدم في قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) في أول سورة البقرة [١١].