المفسرين مثل البيضاوي والكواشي وجعلوه عطفا على (نَتْرُكَ) فتوجّسوا عدم استقامة المعنى كما قال الطبري. وتأوله بوجهين : أحدهما عن أهل البصرة والآخر عن أهل الكوفة ، أحدهما مبني على تقدير محذوف والآخر على تأويل فعل (تَأْمُرُكَ) وكلاهما تكلف. وأما الأكثر فصاروا إلى صرف (أَوْ) عن متعارف معناها وقد كانوا في سعة عن ذلك. وسكت عنه كثير مثل صاحب «الكشاف». وأومأ البغوي والنسفي إلى ما صرحنا به.
وجملة (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) استئناف تهكم آخر. وقد جاءت الجملة مؤكدة بحرف (إنّ) ولام القسم ، وبصيغة القصر في جملة (لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) فاشتملت على أربعة مؤكدات.
والحليم ، زيادة في التهكم : ذو الحلم أي العقل ، والرشيد : الحسن التدبير في المال.
(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨))
تقدّم نظير الآية في قصة نوح وقصة صالح ـ عليهماالسلام ـ.
والمراد بالرزق الحسن هنا مثل المراد من الرحمة في كلام نوح وكلام صالح ـ عليهماالسلام ـ وهو نعمة النبوءة ، وإنّما عبّر شعيب ـ عليهالسلام ـ عن النبوءة بالرزق على وجه التشبيه مشاكلة لقولهم : (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) [هود : ٨٧] لأنّ الأموال أرزاق. وجواب الشرط محذوف يدل عليه سياق الكلام ، أو يدل عليه (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي). والتقدير : ما ذا يسعكم في تكذيبي ، أو ما ذا ينجيكم من عاقبة تكذيبي ، وهو تحذير لهم على فرض احتمال أن يكون صادقا ، أي فالحزم أن تأخذوا بهذا الاحتمال ، أو فالحزم أن تنظروا في كنه ما نهيتكم عنه لتعلموا أنّه لصلاحكم.
ومعنى (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) عند جميع المفسّرين من التّابعين فمن بعدهم : ما أريد ممّا نهيتكم عنه أن أمنعكم أفعالا وأنا أفعلها ، أي لم أكن لأنهاكم عن شيء وأنا أفعله. وبيّن في «الكشاف» إفادة التركيب هذا المعنى بقوله «يقال : خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مولّ عنه ... ويلقاك الرجل صادرا عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول : خالفني إلى الماء ، يريد أنه قد ذهب إليه واردا وأنا ذاهب عنه صادرا» اه.