وفي البيان إشارة إلى أنّ نهيهم عن الفساد هو سبب إنجاء تلك القرون لأنّ النهي سبب السبب إذ النهي يسبّب الإقلاع عن المعاصي الذي هو سبب النجاة.
ودلّ قوله : (مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) على أن في الكلام إيجاز حذف تقديره : فكانوا يتوبون ويقلعون عن الفساد في الأرض فينجون من مسّ النار الذي لا دافع له عنهم.
وجملة (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) معطوفة على ما أفاده الاستثناء من وجود قليل ينهون عن الفساد ، فهو تصريح بمفهوم الاستثناء وتبيين لإجماله. والمعنى : وأكثرهم لم ينهوا عن الفساد ولم ينتهوا هم ولا قومهم واتّبعوا ما أترفوا فيه كقوله تعالى : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) [البقرة : ٣٤] تفصيلا لمفهوم الاستثناء.
وفي الآية عبرة وموعظة للعصاة من المسلمين لأنّهم لا يخلون من ظلم أنفسهم.
واتباع ما أترفوا فيه هو الانقطاع له والإقبال عليه إقبال المتّبع على متبوعه.
وأترفوا : أعطوا التّرف ، وهو السعة والنعيم الذي سهّله الله لهم فالله هو الذي أترفهم فلم يشكروه.
و (كانُوا مُجْرِمِينَ) أي في اتّباع الترف فلم يكونوا شاكرين ، وذلك يحقّق معنى الاتّباع لأنّ الأخذ بالترف مع الشكر لا يطلق عليه أنه اتّباع بل هو تمحّض وانقطاع دون شوبه بغيره. وفي الكلام إيجاز حذف آخر ، والتقدير : فحقّ عليهم هلاك المجرمين ، وبذلك تهيّأ المقام لقوله بعده : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) [هود : ١١٧].
(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧))
عطف على جملة (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) [هود : ١١٦] لما يؤذنه به مضمون الجملة المعطوف عليها من تعرّض المجرمين لحلول العقاب بهم بناء على وصفهم بالظلم والإجرام ، فعقب ذلك بأن نزول العذاب ممّن نزل به منهم لم يكن ظلما من الله تعالى ولكنهم جرّوا لأنفسهم الهلاك بما أفسدوا في الأرض والله لا يحبّ الفساد.
وصيغة (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ) تدل على قوة انتفاء الفعل ، كما تقدّم عند قوله تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ) الآية في آل عمران [٧٩] ، وقوله : (قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) في آخر العقود [١١٦] فارجع إلى ذينك الموضعين.