وليس معنى نفي القتر والذلة عنهم في جملة أوصافهم مديحا لهم لأن ذلك لا يخطر بالبال وقوعا بعد أن أثبت لهم الحسنى وزيادة بل المعنى التعريض بالذين لم يهدهم الله إلى صراط مستقيم وهم الذين كسبوا السيئات تعجيلا للمساءة إليهم بطريق التعريض قبل التصريح الذي يأتي في قوله : (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) إلى قوله : (مُظْلِماً) [يونس : ٢٧].
وجملة : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) نتيجة للمقدمة ، فبينها وبين التي قبلها كمال الاتصال ولذلك فصلت عنها ولم تعطف.
واسم الإشارة يرجع إلى (الَّذِينَ أَحْسَنُوا). وفيه تنبيه على أنهم استحقوا الخلود لأجل إحسانهم نظير قوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥].
(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧))
عطف على جملة (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) [يونس : ٢٦]. وعبر في جانب المسيئين بفعل (كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) دون فعل أساءوا الذي عبر به في جانب الذين أحسنوا للإشارة إلى أن إساءتهم من فعلهم وسعيهم فما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون.
والموصول مراد به خصوص المشركين لقوله بعده : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). فإن الخلود في النار لا يقع إلا للكافرين ، كما دلت عليه الأدلة المتظافرة خلافا للمعتزلة والخوارج.
وجملة : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) خبر عن (الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ). وتنكير (سيئة) للعموم ، أي جزاء كل سيئة بمثلها ، وهو وإن كان في سياق الإثبات فالعموم مستفاد من المقام وهو مقام عموم المبتدأ. كقول الحريري :
يا أهل ذا المغني وقيتم ضرا
أي كل ضر. وذلك العموم مغن عن الرابط بين الجملة الخبرية والمبتدأ ، أو يقدر مجرور ، أي جزاء سيئة منهم ، كما قدر في قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ) [البقرة : ١٩٦] أي فعليه.
واقتصر على الذلة لهم دون زيادة ويرهقهم قتر ، لأنه سيجيء ما هو أشد منه وهو قوله : (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً).